انتفاضة الصيادلة ضد الحيف والتهميش!

يبدو أن قدر التحالف الحكومي الثلاثي بقيادة عزيز أخنوش رئيس حزب "التجمع الوطني للأحرار" الذي أوشكت ولايته الدستورية على نهايتها في غضون بضعة شهور، أن تظل الاحتجاجات والإضرابات ملازمة له إلى آخر يوم من عمره، وذلك بسبب التدبير السيء للشأن العام، التخبط في معالجة الملفات واتخاذ القرارات العشوائية في القضايا المصيرية، مما أدى إلى خلق أجواء من الاضطراب والتوتر في جميع القطاعات من تعليم وصحة وقضاء وغيره.
ولا غرو في أن يلتحق بقافلة الاحتجاجات قطاع الصيدلة الذي يعيش منذ منتصف شهر غشت 2025 على صفيح ساخن وحالة غير مسبوقة من الاحتقان، ويضطر الصيادلة إلى الانخراط في سلسلة من الاحتجاجات التصعيدية، بدءا بحمل "الشارة السوداء" إلى غاية صباح يوم الثلاثاء 9 شتنبر 2025، وهو الموعد الذي تقرر فيه تنفيذ وقفة احتجاجية وطنية أمام مقر وزارة الصحة والحماية الاجتماعية بالرباط، وذلك وفق ما اعتبرته "كونفدرالية نقابات صيادلة المغرب" جوابا على "تجميد كل مخرجات الحوار الذي دام لسنوات مع وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، وتنكرها لالتزاماتها السابقة، وتجاهلها المتكرر لمطالب الصيادلة المشروعة، بل وإقدامها على تبني إجراءات تهدد استقرار منظومة الصيدليات الوطنية وتربك قطاعا برمته"
فما زاد من تعميق الأزمة وأثار حفيظة الصيادلة، ليس فقط تهميش الملف المطلبي الذي ظل حبيس الرفوف منذ سنة 2005، بل كذلك إعلان وزير الصحة والحماية الاجتماعية أمين التهراوي، عن شروع وزارته في إعداد مشروع خاص بتخفيض أسعار الأدوية دون إشراكهم في القرار بخصوص المرسوم المتعلق بمسطرة تحديد أثمنة الأدوية، ومن غير أن يواكب ذلك إجراءات عملية ملموسة أو إصلاحات حقيقية تراعي ظروفهم، مما قد يساهم لا محالة في تفاقم هشاشة الصيدليات ويهدد توازناتها الاقتصادية، ومن ثم يؤدي إلى إغلاق أبواب عشرات المئات منها وتشريد آلاف الأسر المغربية، خاصة في ظل تدهور أوضاع الصيادلة الاقتصادية والمهنية، الذين ما انفكوا يدقون ناقوس الخطر منبهين إلى أن استمرار تأزم الوضع من شأنه الانعكاس سلبا على مستقبل المهنة، وحق المواطن في الولوج إلى الدواء.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن لجوء الصيادلة إلى التصعيد جاء بعد استنفاذهم كل سبل الحوار وقنوات التواصل الممكنة أمام تعنت الجهات الحكومية المعنية، التي بدت في أكثر من مناسبة غير معنية بحلحلة الوضع بما يضمن المسؤولية والإنصاف، بدل التمادي في الانفراد بالقرارات الأحادية الجانب والإصرار على فرض الأمر الواقع وعدم تنزيل مخرجات الحوار كاملة بناء على ما تم الاتفاق عليه من قبل، مستنكرين ما وصل إليه قطاع الصيدليات من أزمة اقتصادية خانقة، بعد أن بات يواجه خطر الإفلاس، جراء انخفاض هامش الربح والتغييرات في السياسة الدوائية، فضلا عن انقطاع الأدوية المتكرر والمستمر.
فما يغيظ الصيدلي اليوم ويستفزه هو أن يرى الصيدلية غير قادرة على المزيد من الصمود أمام تراجع هامش الربح المرتبط أساسا بالأدوية، ضعف القدرة الشرائية للمواطن وارتفاع كلفة التسيير والضرائب، ويشتكي أيضا من انعدام الصرامة في مواجهة ظاهرة الاتجار في الأدوية خارج الصيدلية، عير قنوات غير مشروعة، مما قد يضر بالصحة العامة ويمس بصورة المهنة، علاوة على ما يتعرض إليه الصيادلة من حيف وتهميش في النقاشات الرسمية حول إصلاح المنظومة الصحية، رغم دورهم المحوري الهام في تقريب الخدمات الدوائية من المواطن، وتقديم الاستشارة الطبية الأولية له بالمجان...
وعلى عكس ما يتم الترويج له من ارتفاع هامش الربح إلى 57 في المائة، فإن الحقيقة التي يريد البعض حجبها على الموطنين، هي أن هامش الربح يتراوح بين 8 و11 في المائة فقط، كما يشهد بذلك التقرير الأخير الصادر عن المديرية العامة للضرائب، في حين أن 57 في المائة ليست في الواقع سوى "معامل حسابي معقد" لا علاقة له إطلاقا بالربح الفعلي، الذي غالبا ما يستنزف في مصاريف: الضرائب، الأعباء الاجتماعية والتشغيل...
ففي خضم هذه الأجواء المشحونة، يؤكد رئيس "كونفدرالية صيادلة المغرب" محمد لحبابي، أن خيار الاحتجاج لم يأت عبثا أو من باب الترف، بل أملته الظروف المتدهورة التي يعيشها قطاع الصيدلة منذ عدة سنوات، بسبب ما أسماه سياسات الخذلان والتجاهل، مستشهدا باستمرار الوضع على ما هو عليه من ترد منذ أزيد من 15 سنة رغم وعود الوزراء المتعاقبين بالإصلاح، لدرجة أصبح معها الصيدلي المغربي بين مطرقة الإفلاس وسندان الاعتقال، مشيرا إلى أن الوزارة الوصية تسن سياسات حسب المزاج، فيما تبقى مشاركة الصيادلة شكلية، في جلسات استماع لا أثر لمخرجاتها على تحسين وضع القطاع الصيدلي، مما يفقد لقاءات الحوار الاجتماعي مصداقيتها، ويتعارض مع المبادئ الدستورية التي جعلت من المقاربة التشاركية ركيزة أساسية في صياغة السياسات العمومية...
إن قطاع الصيدلة بحاجة إلى حوار جاد ومسؤول من أجل ضمان استدامة الصيدليات، تعزيز آليات المراقبة ضد البيع غير القانوني للأدوية وإشراك الصيادلة في أوراش الحماية الاجتماعية والصحة العمومية، الذين يتمنون صادقين اعتماد المسؤولين رؤية استراتيجية واضحة للسياسة الصحية، الاستماع إلى مطالبهم المشروعة من خلال مقاربة تشاركية حقيقية، الاعتراف بدورهم المركزي وإنصافهم مهنيا واقتصاديا، في اتجاه الحفاظ على استمرار شبكة صيدليات قوية وقادرة على أداء دورها في خدمة صحة المواطنين، ولاسيما أن القطاع الصيدلي يعد ركيزة أساسية في المنظومة الصحية الوطنية.