جيل Z : قلق المعنى وأزمة الدولة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا

أكتوبر 1, 2025 - 21:35
 0
جيل Z  : قلق المعنى وأزمة الدولة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا

لم يعد جيل Z مجرد تسمية ديموغرافية، بل تحوّل إلى علامة على أزمة عميقة تعيشها الدولة الحديثة والمجتمع المعاصر في آن واحد. وُلد هذا الجيل في زمن العولمة الرقمية، فلم يعرف عالمًا منغلقًا ولا ذاكرة سياسية محكومة بحدود ضيقة، بل شبّ وهو يرى العالم كله على شاشة صغيرة بين يديه. لذلك لم يعد يقبل بالخطاب السياسي كما صيغ في القرن الماضي، ولم تعد الأحزاب التقليدية قادرة على إقناعه أو إدماجه في مشاريعها القديمة، إذ يختبر يوميًا الهوة بين ما يُقال وما يُعاش، بين وعود السلطة وتجارب الحياة الفعلية.

 

إنّ ما يميز هذا الجيل ليس فقط نزوعه إلى استخدام التكنولوجيا في التعبير، بل انكشافه المبكر على التفاوتات الكبرى والظلم البنيوي الذي يحكم النظام العالمي. ولذلك فهو لا يطلب خبزًا فحسب، بل معنى يبرر وجوده. هنا تكمن المفارقة: دولة تريد أن تحتويه عبر برامج تشغيل وتعليم وسكن، وجيل لا يقتنع إلا بعقد اجتماعي جديد يعترف بكرامته ويمنحه موقعًا في صياغة المصير. ما لم يُدرك صانع القرار أن المسألة وجودية قبل أن تكون تقنية، فإن كل السياسات ستظل مجرد مُسكنات عاجزة عن مواجهة القلق العميق الذي يسكن هذا الجيل.

 

الخطر إذن ليس في سخط الشباب أو سخرية منشوراتهم، بل في العدمية التي قد تتحول إلى طاقة احتجاجية مدمّرة. وحين تصبح العدمية وعيًا جماعيًا، تفقد السلطة قدرتها على الضبط، وتتحول الشوارع والمنصات الرقمية إلى بدائل عن المؤسسات. لذلك فإن المسألة ليست خوفًا من انفلات قادم، بل في فهم أن جيل Z يُطالب بإعادة تعريف السياسة نفسها: لا كآلية للسيطرة والتدبير، بل كبحث عن معنى مشترك، عن أفق يضمن الحرية والكرامة والاعتراف.

 

إنه جيل يضعنا أمام سؤال فلسفي قاسٍ: ما جدوى السياسة إذا لم تمنح معنى للحياة؟ وما جدوى الدولة إذا لم تكن أكثر من جهاز إداري يعيد إنتاج اللامساواة؟ إنّ المستقبل لن يكون رهين خطاب التطمين أو التخويف، بل رهين القدرة على تحويل هذا القلق الوجودي إلى مشروع جماعي. وهنا يتضح أن جيل Z ليس تهديدًا، بل فرصة لاختبار ما تبقى من طاقة السياسة على أن تكون فنًّا للعيش المشترك، بدل أن تغرق في تقنياتها البيروقراطية وأكاذيبها المكرورة.

 

جيل Z ليس مجرد فئة عمرية تولد بعد التسعينيات، بل هو تجسيد لزمن متغير، زمن يتسم بالانفجار الرقمي الذي أعاد تعريف مفهوم الفردية، الحرية، والانتماء. في قلب هذا الجيل تتشابك التجربة الشخصية مع الواقع الافتراضي، فتولد هويات متعددة الطبقات، متناقضة أحيانًا، تحمل بين طياتها وعيًا مبكرًا بالعدم والغياب، وفضولًا دائمًا نحو المجهول.

 

سياسيًا، يمثل هذا الجيل تحديًا صارخًا للأنظمة التقليدية التي بُنيت على التراتبية والسلطة المهيكلة. ففي عالمه، السلطة لم تعد تأتي من المؤسسات أو التقاليد، بل من القدرة على التعبير، التأثير، والنشر الرقمي. كل تغريدة، كل فيديو، كل منشور يصبح بمثابة خطاب سياسي مستقل، يعكس موقفًا، احتجاجًا، أو رؤية للعالم، بعيدًا عن الرقابة أو الوساطة التقليدية. هنا يظهر التحول الفلسفي نحو ديمقراطية التواصل المباشر، حيث يصبح الفضاء الرقمي ساحة لمساءلة السلطة، وإعادة تعريف المفاهيم الكلاسيكية للحق والحرية.

 

لكن هذا الجيل يعيش أيضًا معضلة وجودية: فهو متصل دائمًا بكل شيء، لكنه في الوقت نفسه يشعر بالعزلة؛ يملك المعرفة ولكنه يفتقر أحيانًا إلى الحكمة؛ يملك الصوت ولكنه يشكو من الانكسار أمام موجات المعلومات الهائلة. وهنا يلتقي الفلسفي بالسياسي: الوعي بالذات والواقع يفرضان مسؤولية مضاعفة، ويطرحان سؤال الحرية الحقيقية في زمن الفضاء الرقمي: هل نحن أحرار حقًا إذا كانت كل أفعالنا مراقبة ومحللة، وكل اختياراتنا موجهة من خوارزميات غير مرئية؟

 

في البعد الاجتماعي، جيل Z يضعنا أمام أزمة القيم التقليدية. التقاليد، الدين، الدولة، وحتى الأسرة، كلها تخضع لمراجعة نقدية صارمة، ليست كإبطال، بل كبحث عن توافق جديد بين الحداثة والهوية. وهذا يجعل من هذا الجيل حاملي مشروع فلسفي وسياسي جديد: مشروع يعيد تعريف علاقة الإنسان بالمعرفة، بالسلطة، وبالمجتمع، في ظل عالم سريع التغير، حيث الرقمية تصبح أداة مقاومة وتأثير، والوعي الفردي يصبح فعلًا سياسيًا.

 

ختامًا، جيل Z ليس مجرد مستقبل ينتظر أن يُبنى؛ إنه حاضر قائم بذاته، يقف على مفترق الطرق بين العدمية الرقمية والقدرة على إعادة تشكيل الواقع، بين الحرية الافتراضية والمسؤولية الاجتماعية، بين قوة التأثير وحدود الوعي. إن فهمه فلسفيًا وسياسيًا يعني قراءة العالم من منظور جديد، حيث الإنسان أصبح شبكة متشابكة من التجارب والمعاني، والحرية ليست مجرد حق، بل فعل مستمر من الوعي والمواجهة.

في نهاية المطاف، جيل Z ليس مجرد مستقبل ينتظر أن يُبنى، بل هو حاضر متحرّك، حيّ، وصوت يتحدى الهياكل التقليدية للسلطة والمجتمع. إنه جيل يعرف قيمة المعرفة والحرية، لكنه أيضًا يدرك حدودها في عالم رقمي معقد ومراقَب. كل تجربة رقمية، كل احتجاج شبابي، وكل مشروع فردي أو جماعي، هو فعل سياسي وفلسفي بامتياز، يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والدولة، بين الفرد والمجتمع، وبين الهوية والانتماء.

 

هذا الجيل يضعنا أمام سؤال محوري: هل سنسمح له أن يصنع مستقبله وفق رؤيته، أم سنستمر في قمع وعيه وإعادة إنتاج أنظمة فشلت في فهمه؟ قراءة جيل Z بعين فلسفية وسياسية تعني إدراك أن الحرية ليست مجرد كلمة، بل فعل مستمر من الوعي، المواجهة، والتجريب، وأن المجتمع الذي لا يفهم هذا الجيل، سيخسر فرصته في فهم ذاته ومستقبله.

 

جيل Z إذًا ليس مجرد رقم على التقويم، بل حركة زمنية قائمة بذاتها، تنبض بالوعي، المقاومة، والبحث عن المعنى في عالم متغير بسرعة الضوء. ومن يفهمه، يدرك أن التغيير ليس اختيارًا، بل ضرورة وجودية لا يمكن تجاهلها.