نعم للاحتجاج السلمي ولا للعنف والتخريب!

رفضا لسياسات الحكومات السابقة والحالية الفاشلة، وما ترتب عنها من احتقان شعبي متزايد، جراء تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والهدر المدرسي وغلاء الأسعار واستشراء الفساد واتساع الفوارق الاجتماعية والمجالية، وعلى غرار "حركة 20 فبراير"، برزت حركة شبابية ناشطة في عالم الرقمنة ووسائل التواصل الاجتماعي، تتراوح أعمارهم ما بين 15 و28 سنة، بعيدين عن الهيئات السياسية والنقابية. وهم مجموعة من الشباب بمختلف مدن المملكة، أطلقوا على أنفسهم اسم "جيل زد 212" أو "Gen Z 212"
وعلى إثر الشرارة التي أشعلها الغضب الشعبي إثر تردي الوضع الصحي في المستشفيات العمومية، قررت هذه "الحركة الشبابية" نقل نشاطها من الفضاء الرقمي إلى الشارع، عبر الدعوة إلى احتجاجات سلمية واسعة بجميع مدن المغرب يومي السبت والأحد 27/28 شتنبر 2025، مطالبة بالكرامة والعدالة الاجتماعية، واحترام الأولويات في توجيه النفقات العمومية، لتحسين الخدمات الاجتماعية في الصحة والتعليم، توفير فرص شغل مناسبة للعاطلين، ومكافحة مختلف أشكال الفساد. وهو ما استجاب له المواطنون عبر التراب الوطني، حيث خرج إلى جانب فئة الشباب مئات النساء والرجال من مختلف الأعمار في عدة مدن، رافعين شعارات التنديد بالظلم والإقصاء والتهميش، ومرددين نفس مطالب "جيل زد 212" في أجواء من الهدوء والانضباط، بعيدا عن مظاهر العنف.
واللافت للانتباه هو عدم تأخر المواطنين وعديد الفاعلين السياسيين والرياضيين المحليين والدوليين والفنانين وغيرهم عن مباركة الاحتجاجات السلمية وضم أصواتهم لهؤلاء الشباب، خاصة أنه ليس هناك أدنى خلاف حول مطالبهم المشروعة. غير أنه سرعان ما بدأت الأوضاع تخرج عن السيطرة في بعض المدن، بعد أن تحولت شوارعها إلى ساحات حرب، وتباينت ردود الفعل عن الأسباب التي أدت إلى ذلك التصعيد بين من يعزو الأمر إلى التدخل العنيف لقوات الأمن في محاولة إخلاء الشوارع، وبين من ينسب الأمر إلى عناصر مندسة وسط المتظاهرين، أو عرض مقاطع فيديو مفبركة على منصات التواصل الاجتماعي من قبل جهات معادية للمغرب، تهدف إلى تهييج المتظاهرين وتحريضهم على العنف وتفجير الأوضاع، مما جعل الاحتجاجات تمتد إلى يومين آخرين إضافيين...
بيد أن حركة "جيل Z" التي تقود هذه الاحتجاجات السلمية لم تلبث أن عادت لتجدد تأكيدها على الطابع السلمي لتحركاتها وتتبرأ من أعمال العنف والفوضى، داعية المحتجين إلى التمسك ببرودة الأعصاب والالتزام بالانضباط وعدم الانسياق خلف من يحاولون إثارة الشغب، وأن تظل الشعارت منحصرة في المطالب العادلة: الحق في تعليم جيد وصحة للجميع وعيش كريم لكل المغاربة على قدم المساواة ودون تمييز. ولم يفتها دعوة السلطات الأمنية إلى ضبط النفس من جانبها وتجنب ما أمكن التصادم مع المحتجين، محذرة من أن أي مواجهات قد تقوض خدمة الشعب والوطن، وناشدت "القوى المشبوهة في الخارج" بعدم استغلال هذه الاحتجاجات، التي ليس لها من دوافع عدا "حب الوطن والدفاع عنه".
وفي الوقت الذي التزمت الحكومة الصمت كما هي عادتها فيما سبق من أزمات مثل أزمة التعليم وأزمة طلبة كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان، وراهنت فقط على المقاربة الأمنية في إخماد "النيران المضطرمة"، واضطرار "جيل زد" إلى تمديد الاحتجاجات أمام الممارسات القمعية والاعتقالات العشوائية، لم يجد التحالف الحكومي الثلاثي من وسيلة لاحتواء غضب الشارع وتهدئة النفوس، سوى الإعلان عن اجتماع طارئ يوم الثلاثاء 30 شتنبر 2025، أصدرت على إثره رئاسة الأغلبية الحكومية المتمثلة في عزيز أخنوش رئيس حزب "الحمامة"، وفاطمة الزهراء المنصوري ومحمد المهدي بنسعيد عضوي القيادة الجماعية للأمانة العامة لحزب "الجرار" ونزار بركة الأمين العام لحزب "الميزان"، بيانا تبدي فيه تفهمها لمطالب حركة "جيل Z" واستعدادها الكامل لفتح حوار هادف ومسؤول قصد رفع التحديات ومعالجة مختلف الإشكالات المطروحة...
من هنا يتضح جليا أن رسالة "الحراك الشبابي" الجديد بلغت إلى من يهمهم الأمر، الذين يبدو أنهم اقتنعوا بعدالة المطالب التي تعبر عن الواقع المتأزم ومعاناة المغاربة، كما اعترف بعضهم بأن هناك إخفاقات ومشاكل متعددة ساهمت في تعالي أصوات الاحتجاج والتنديد، ولم تعد أي جهة داخل الوطن تشكك في النوايا الحسنة لهذه الفئة من الشباب المغربي التواق للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، المتطلع إلى بناء مغرب جديد وعادل. كيف لا وملك البلاد محمد السادس نفسه طالما أبدى عدم رضاه عن التوزيع الجائر لثمار التنمية بين مختلف المناطق، رافضا استمرار سير المغرب بسرعتين، مما يستدعي جلسة تأمل عميقة وإعادة النظر في السياسات العمومية المتبعة، ولاسيما منها تلك المتعلقة بالشباب والقطاعات الاستراتيجية...
إننا ومن منطلق حبنا الكبير لهذا الوطن الذي يجمعنا، ونتقاسم بشكل أو آخر همومه كما أفراحه، ندعو شباب "جيل Z" الذين أبانوا عن مستوى عال من الوعي والنضح والاعتزاز بمغربيتهم، إلى التراجع خطوتين للخلف، والحرص على الإنهاء السلمي لاحتجاجاتهم مثلما بدأت سلمية، من أجل تفويت الفرصة على المتربصين بالوطن من الخونة والأعداء، وحتى لا تتحول مطالبهم المشروعة إلى مبرر للعنف وتخريب الممتلكات العامة والخاصة، خاصة أن صوتهم بلغ إلى مداه وتجاوز مسامع مدبري الشأن العام.
فالوطن الذي ظل على مر العصور يستمد قوته من اللحمة الداخلية والتفاف أبنائه حول قائدهم الملهم الملك محمد السادس، مازال في حاجة إلى سواعد البناء وليس إلى معاول الهدم.