المغرب والذكاء الاستخباراتي...نحو نموذج أمني متوازن

لم تعد البيئة الأمنية العالمية كما كانت قبل عقد من الزمن، فالإرهاب العابر للحدود، والشبكات الإجرامية المنظمة، والحروب الهجينة، والهجمات السيبرانية، كلها تحديات فرضت على الدول إعادة النظر في أسلوب إدارة منظوماتها الأمنية. وفي هذا السياق، يبدو المغرب متقدمًا بخطوات استراتيجية، حيث يكشف تقرير معهد “روك للدراسات الجيوسياسية والأمنية” عن إعادة صياغة المملكة لاستراتيجيتها الاستخباراتية بشكل يجعلها أكثر حداثة وشمولية.
ما يميز التجربة المغربية هو أنّها لا تقتصر على تعزيز القدرات البشرية والتقنية للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني (DGST) والمديرية العامة للدراسات والمستندات (DGED) والمكتب المركزي للأبحاث القضائية (BCIJ)، بل تتجه أيضًا نحو دمج الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة في العمل الاستخباراتي، مما يسمح بالانتقال من مجرد الاستجابة للأحداث إلى القدرة على التنبؤ بالمخاطر قبل وقوعها. ومع ذلك، فإن الجانب التكنولوجي وحده لا يكفي، إذ يوضح التقرير أن المغرب يسعى إلى موازنة عمله الأمني مع احترام حقوق الإنسان ودولة القانون، وهو عنصر جوهري للحفاظ على شرعية الأجهزة وفاعليتها في القرن الحادي والعشرين.
لقد أثبتت التجربة المغربية في مكافحة الإرهاب منذ 2003 أنّ النهج الأمني الصرف لا يكفي، بل يجب أن تكمله سياسات وقائية وتنموية وفكرية، وهو ما يعكس رؤية المملكة للأمن بوصفه أداة للحماية والتنمية في الوقت ذاته. وعلاوة على ذلك، يبرز التقرير أن هذا التحول يجعل المغرب شريكًا موثوقًا في الأمن الدولي، خصوصًا في منطقة الساحل والصحراء الأكثر هشاشة أمنيًا، إذ تتجاوز مسؤوليات المملكة حماية أمنها الداخلي لتشمل تعزيز الاستقرار الإقليمي عبر تبادل المعلومات الاستخباراتية وتطوير القدرات المشتركة مع الشركاء الأوروبيين والأفارقة.
في ضوء ذلك، يمكن القول إن المغرب يؤسس لنموذج جديد للأمن والاستخبارات يعتمد على تحديث تكنولوجي مستمر، واندماج مؤسسي فعال، مع التزام صارم بالشرعية الحقوقية، ليجمع بين الفاعلية الأمنية واحترام القانون وحقوق الإنسان، مما يجعله مثالًا رائدًا في المنطقة على إدارة التحديات المعقدة بذكاء وتوازن.