لماذا استهداف المغرب؟ ولماذا الآن؟

في مقال الأسبوع الماضي، تساءلتُ: هل يتعرض المغرب لحرب هجينة من حروب الجيل الخامس؟ تلك الحرب التي سبقتها هجمات سيبرانية، وحملات إعلامية تضليلية، وتوظيف مكثف للمنصات الرقمية بهدف التحكّم في الإدراك العام والتلاعب به، عبر استثمار ما يسميه عدد من الباحثين بـ"فجوة التوقعات" التي عانت منها كثير من الدول التي عرفت عمليات انتقال سياسي، أي تلك الانتظارات التي تقوم على الربط الآلي بين تطور الحياة السياسية والديمقراطية والاقتصادية وتوزيع ثمارها حينا على كل الفئات الاجتماعية. كل ذلك يجري من خلال استغلال مساحات حرية التعبير التي توفرها البيئة السياسية في المغرب، بوصفه البلد الذي تصدّر مؤشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لسنة 2024.
في مقال اليوم، سنعرض أهم الأسباب التي تجعل من المغرب هدفاً ثميناً ومستهدفاً من قبل جيرانه، الذين وسّع الفجوة الاقتصادية والتنموية معهم بشكل جعل المقارنة غير ممكنة. ويتأكد هذا بصفة خاصة في سياق استعداد المغرب والأمم المتحدة، نهاية هذا الشهر، لإسدال الستار عن الصراع المفتعل حول الصحراء المغربية المستمر منذ نصف قرن، وذلك بالاعتراف الأممي التام والنهائي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وهو ما يظهر بوضوح في مسودة قرار مجلس الأمن الدولي.
المغرب يُزعج، لأنه وضع في نموذجه التنموي الجديد هدف بلوغ نادي الدول الصاعدة في أفق سنة 2035. هذا الهدف يتطلب مضاعفة الناتج الداخلي الخام إلى ما يعادل 300 مليار دولار، وتوسيع الطبقة الوسطى، والحفاظ على معدلات نمو متصاعدة، ومعدلات بطالة متحكَّم فيها. وفي الطريق إلى تحقيق هذه الأهداف، استطاع المغرب أن يضاعف ناتجه الداخلي الخام ثلاث مرات بين سنتي 1999 و2024، منتقلاً من 43 مليار دولار إلى حوالي 133 مليار دولار. كما نجح في الفترة نفسها في الانتقال في مؤشر التنافسية العالمي من الرتبة 130 إلى الرتبة 53.
وفي طريقه نحو نادي الدول الصاعدة، أطلق المغرب مشاريع كبرى في البنية التحتية، أبرزها ميناء طنجة المتوسطي، الذي يُعدّ أكبر ميناء في إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط، وشبكة الطرق السيارة التي تربط الأطلس الكبير والأطلس الصغير ومقدمة جبال الريف بالبحر الأبيض المتوسط، عبر محاور مراكش-فاس عبر بني ملال وخنيفرة، وفاس-تطوان عبر تاونات ووزان، إلى جانب الطرق السريعة (بني ملال/الرباط ومكناس/الراشيدية). كما يجري تمديد القطار فائق السرعة ليصل إلى أكادير بعد مراكش، وإنجاز "الطرق السيارة للماء" عبر الربط بين الأحواض المائية، وسلسلة من محطات تحلية مياه البحر لتأمين الماء الصالح للشرب لجميع السكان على السواحل، في ما يعادل منجزات السدود والمنشآت المائية منذ الاستقلال في ولاية حكومية واحدة.
يُضاف إلى ذلك ميناء الداخلة الأطلسي الذي سيتحول إلى منفذ لدول الساحل والصحراء على التجارة العالمية، فضلاً عن مناطق التسريع الصناعي والاستثمار الكبير في مجالات الطاقة النظيفة (الطاقة الشمسية، الطاقة الريحية، الهيدروجين الأخضر)، بكل ما يحمله ذلك من ثقل مالي ومخاطر مرتبطة بسرعة التحول التكنولوجي.
هذه المكتسبات تحققت في سياقات داخلية ودولية ضاغطة، منها أزمات الطاقة العالمية المرتبطة بأوضاع جيوسياسية وجيواستراتيجية يصعب التحكم فيها، إضافة إلى الأزمات المالية والاقتصادية العالمية، مثل الأزمة المالية لسنة 2008، وأزمة كورونا، وتداعيات الحرب على أوكرانيا، ثم أزمة الجفاف التي أصبحت بنيوية واستمرت سبع سنوات متتالية.
ورغم تعقيدات هذه الوضعية، استطاع المغرب أن يجعل من الفلاحة قطاعاً مساهماً بما يقارب 7 مليارات دولار في الناتج الداخلي الخام، كما تجاوزت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج الداخلي الخام تلك التي تحققها صادرات الفوسفاط، وقد كشف بنك التنمية الإفريقي في تقريره لسنة 2022 أن المغرب أصبح ثاني دولة صناعية في إفريقيا. وتصدّرت شركاته الكبرى قائمة أكبر الشركات المدرجة في بورصات شمال إفريقيا، وفق تقرير حديث صادر عن مجلة African Business المتخصصة في الشؤون الاقتصادية الإفريقية، حيث أفاد التقرير بأن 15 شركة من أصل 20 شركة رائدة في المنطقة تنتمي للاقتصاد المغربي. كما تصدّر المغرب دول شمال إفريقيا في تصنيف مؤشر المرونة المالية العالمي لسنة 2025، الصادر عن مؤسسة "FM" للحلول الاقتصادية والمالية.
كما نجح المغرب في تصدر السياحة الإفريقية بـ17.4 مليون سائح سنة 2024، بزيادة 20% عن السنة السابقة. وبلغت نسبة الربط بالكهرباء 90%، ونسبة الربط بالماء الصالح للشرب حوالي 89%. وتراجع معدل الفقر متعدّد الأبعاد بشكل كبير بين عامي 2014 و2024، من 11.9% إلى 6.8%، أي انخفاض عدد الفقراء من حوالي 4 ملايين إلى 2.5 مليون شخص. وأطلق المغرب "استراتيجية المغرب للذكاء الاصطناعي 2020-2030"، التي تهدف إلى جعله مركزاً إقليمياً وإفريقياً رائداً في هذا المجال. وقد تمكن من تصدر القارة في مراكز البيانات وصناعة أشباه الموصلات، وكذلك في صناعة السيارات و نجح المغرب في استقطاب استثمارات صينية تقارب 6 مليارات دولار لبناء أكبر مصنع في إفريقيا لصناعة بطاريات السيارات، وأعطى الملك محمد السادس قبل أيام انطلاق أشغال مصنع لصناعة وإصلاح محركات الطائرات ينضاف إلى مصانع أخرى تصنع أجزاء الطائرات، كما أطلق أول مصنع مغربي لإنتاج اليورانيوم المركز (الكعكة الصفراء) المستخدم في صناعة الوقود النووي بمدينة الجديدة، بالاستفادة من احتياطيات الفوسفاط الضخمة.
لكن، رغم هذا التقدّم، لا تزال هناك تفاوتات بين المناطق الحضرية والقروية، وبين المناطق الساحلية والداخلية (الواحات والجبال)، وهو ما نبّه إليه العاهل المغربي في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان، وقبل ذلك في خطاب العرش (أغسطس 2025)، حين تحدث عن "مغرب يسير بسرعتين". وهو تنبيه للفاعلين العموميين بأن الفوارق المجالية ما زالت قائمة بين مختلف الجهات.
هذه الوضعية عاشتها أيضاً دول كثيرة استطاعت ولوج نادي الدول الصاعدة (الصين، الهند، البرازيل، إندونيسيا، جنوب إفريقيا...)، حيث واجهت صعوبات في تحقيق التوازن بين المناطق الساحلية والداخلية وفي توزيع ثمار التنمية. وهي وضعية لا تزال قائمة في بعضها إلى اليوم، ما يعني أن هذه الظاهرة ليست مغربية خالصة، بل لحظة عابرة في مسار التصنيع والتحديث والتحول نحو دولة صاعدة، الأهم أن الدولة مدركة لهذه الوضعية، وتستعجل تقديم أجوبة تنموية لها من خلال برامج ومخططات بأجندات وأهداف واضحة، تحتاج لتحقيقها إلى قدر كبير من الاستقرار، وهو ما نجحت فيه الدول الصاعدة، خصوصاً التجربة الصينية التي انتقلت من مخطط بناء الأساس الصناعي (1953-1978)، إلى "صُنع في الصين" ثم "ابتكر في الصين" (2016-2025)، مرورا بمرحلة الانفتاح والإصلاح 1978-2000 فمرحلة التحديث الشامل 2001-2015، في إطار سعيها لامتلاك ناصية التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، هذا الطموح الصيني هو ما يفسر جزءاً من الأزمات والصراعات الجيوسياسية في العالم، التي تدور اليوم حول صناعة الرقائق الإلكترونية والسيادة السحابية.
هذا هو السياق العام الذي يجعل المغرب هدفاً لهجمات خارجية. غير أن اللعبة انكشفت أسرع مما كان البعض يتوقع. ومع ذلك، يبقى الدرس الأهم هو أن السلاح الأقوى لمواجهة مخاطر حرب من الجيل الخامس هو وحدة الجبهة الداخلية وسدّ الذرائع والأسباب، وجعل المجتمع والدولة في خندق واحد، وقد أظهر المغرب ذلك بكثير من الجدية والوعي.