مزراري لـ"أخبارنا".. خطاب الملك رسم خارطة طريق شاملة لمرحلة مقبلة أكثر صرامة عنوانها ربط المسؤولية بالمحاسبة

في وقتٍ تعالت فيه أصوات الشارع المغربي مطالبة بإصلاحات عميقة في قطاعات الصحة والتعليم ومحاربة الفساد، جاء الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية ليعيد ترتيب المشهد السياسي والاجتماعي، فاتحًا الباب أمام أسئلة حارقة حول مآلات المرحلة المقبلة.
وفي هذا السياق، كان لموقع "أخبارنا" حديث خاص مع الكاتب الصحفي والباحث في الشؤون المغربية، الدكتور "عبد الهادي مزراري"، قدّم من خلاله قراءة دقيقة في مضامين الخطاب الملكي، أكد عبرها أن الملك رسم خارطة طريق شاملة لإصلاح المؤسسات وتفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة، مشددا على أن الاحتجاجات الأخيرة لم تغب عن لوحة القيادة الملكية وإن لم تُذكر بالاسم.
س: بداية، كيف تقرأون الخطاب الملكي الأخير؟ ولماذا لم يتطرق إلى الاحتجاجات التي عرفتها بعض المدن المغربية؟
ج: بداية، يجب تصحيح بعض الانطباعات التي أُثيرت عقب الخطاب الملكي، فالكثيرون لم يستوعبوا مضمونه، إما بسبب ضيق في الرؤية التحليلية أو بدافع النية المبيتة لإشعال فتيل التأويلات.
الخطاب الملكي ليوم الجمعة الماضي لم يكن عاديًا، بل كان جوابًا شاملًا على كل التساؤلات والانتظارات من الألف إلى الياء، وقدّم خارطة طريق واضحة لتفعيل دور المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية.
لقد تحدث جلالة الملك في صلب الموضوع، وركز على العدالة الاجتماعية والمجالية وآليات تفعيل العمل المؤسساتي، واضعًا الأسس لمغرب صاعد ومتوازن من الجبل إلى السهل ومن الواحات إلى المدن.
أما عدم الإشارة المباشرة للاحتجاجات، فذلك لأن جلالته يمتلك لوحة قيادة دقيقة تتضمن كل المعطيات التي تمكّنه من تحديد ما يجب قوله وما يجب تركه. الخطاب لم يتجاهل المطالب، بل عالجها من زاوية أعمق وأشمل.
س: هل يمكن اعتبار المطالب التي رفعت خلال الاحتجاجات منتهية؟ أم أن هناك قرارات ملكية مرتقبة في الأفق؟
ج: المؤسسة الملكية تتخذ قراراتها وفق الصلاحيات الدستورية، وعندما يريد جلالة الملك أن يوجه رسائل للرأي العام، فإنه يفعل ذلك عبر الخطب الملكية أو البلاغات الرسمية أو الرسائل الموجهة للمؤتمرات.
الخطاب الملكي الأخير سيكون له ما بعده بلا شك، إذ ينتظر أن تتحرك الحكومة بكامل طاقتها، وأن يشتغل الإعلام بمسؤوليته الوطنية، كما ستنطلق عمليات للتحقيق وربما نكون أمام مرحلة جديدة من ربط المسؤولية بالمحاسبة.
الأحزاب السياسية بدورها مطالبة بـ"تنظيف بيوتها من الداخل"، والسلطة القضائية مطالبة بتفعيل المساطر المتعلقة بالتقارير الرقابية، بينما على الإعلام أن يمارس دوره في المراقبة والتنوير في إطار احترام الأمن القومي للبلاد.
س: هناك من يتحدث عن احتمال تنظيم انتخابات مبكرة، ما رأيكم؟
ج: إذا ما سارت الأمور وفق المنهج الذي حدده جلالة الملك في خطابه، فالحكومة ستواصل عملها حتى نهاية ولايتها، لكنها ستكون أمام امتحان صعب وفي ظرف مختلف تمامًا.
أما سقوط الحكومة فلا يتم إلا بآلية دستورية، مثل فقدان الأغلبية أو انسحاب أحد الأحزاب المكونة لها. ومع ذلك، أعتبر أن الانسحاب في هذه المرحلة سيكون عملًا جبانًا، كما أن إجراء انتخابات سابقة لأوانها لن يكون ذا جدوى، لأن النتائج على الأرجح ستعيد الوجوه نفسها.
س: هل يكفي ما تبقى من عمر الحكومة الحالية لتحقيق مطالب "جيل زد"؟
ج: مطالب "جيل زد" ليست غريبة أو مفاجئة، فهي مطالب مجتمعية قديمة تشترك فيها الأحزاب والنقابات والجمعيات. الإشكال الحقيقي هو من سينفذ الإصلاحات وفي أي ظرف زمني؟
المرحلة المقبلة تستدعي المرور إلى السرعة القصوى في تنزيل الإصلاحات الاجتماعية، وهذا يتطلب تنظيف الساحة من الأعشاب الطفيلية التي تعرقل السير.
لكن بصراحة، لا أعتقد أن الحكومة قادرة على تحقيق المطلوب بالكامل، لأن الوقت لم يعد كافيًا، وكان عليها أن تبدأ منذ سنوات. الإصلاح يحتاج إلى كفاءة ونزاهة، وهما عنصران مفقودان في كثير من المواقع.
س: في نظركم، ما أبرز القطاعات التي فشلت الحكومة في تدبيرها؟
ج: يجب أن نكون منصفين، فهناك نصف الكأس المملوء المتمثل في الإنجازات الكبرى في البنية التحتية والمواصلات والصناعة والسياحة والرياضة، ولكن هناك أيضًا نصف الكأس الفارغ المتمثل في فشل القطاعات الاجتماعية، وعلى رأسها الصحة والتعليم.
للأسف، تم استغلال معاناة هذه القطاعات لأغراض سياسية وإعلامية، أحيانًا بمكر من أطراف خارجية، وأحيانًا بجهل من بعض المعارضين.
لقد خضعت هذه الحكومة لأصعب امتحان في تاريخ المغرب، وعندما رفعنا شعار "الدولة الاجتماعية"، كان يفترض أن تكون حكومة اجتماعية بحق، لكنها لم تفعل.
ولنأخذ مثال دعم استيراد أضاحي العيد، فقد استفاد منه المستوردون المقربون بدل المواطن البسيط، ما أثار غضب الشارع، ودفع جلالة الملك لاحقًا إلى إلغاء شعيرة الذبح في العام الموالي، وهو قرار استقبله الشعب بارتياح كبير.
س: كلمة أخيرة؟
ج: الخطاب الملكي الأخير لم يكن مجرد توجيه سياسي، بل خطة استراتيجية لبناء مغرب العدالة الاجتماعية والمجالية، ورسالة قوية لكل الفاعلين بأن المرحلة المقبلة مرحلة عمل ومحاسبة، لا مكان فيها للتردد أو الارتجال.