أصوات من تحت الرماد: من شواطئ الهجرة إلى جبال الغضب

في وطن أنهكته الوعود المؤجلة والسياسات العرجاء، لم يعد صوت المواطن العادي مجرد همس في الهوامش، بل صار صرخة تمتد من أمواج الفنيدق الهائجة، حيث جازف الشباب بحياتهم في قوارب الموت، إلى أزقة سلا التي تحوّلت في ليلة عاشوراء إلى ساحة من الفوضى والعنف، وصولًا إلى جبال آيت بوكماز، حيث خرجت الساكنة في مسيرة صامتة في مظهرها و صاخبة في جوهرها احتجاجًا على التهميش المزمن.
مشاهد متفرقة جغرافيًا، لكنها موحّدة في دلالاتها, الدولة تغيب حين يُنتظر حضورها، والحكومة تصمّ أذنها عن رسائل اجتماعية باتت أكثر تعبيرًا من أي خطاب رسمي, ليس ما يحدث اليوم مجرد أحداث معزولة، بل هو تراكم لانكسارات ثقة، وضيق اجتماعي، وتدهور في وظائف الوساطة، وغياب في الرؤية السياسية الحقيقية.
فهل نحن أمام إنذارات متكررة لحريق اجتماعي قادم ؟ أم أن الحكومة ستواصل دفن رأسها في الرمال بينما الرماد تحت أقدامها يتحول إلى لهب ؟
مطالب ساكنة آيت بوكماز في مسيرتهم السلمية الحضارية عبّرت عن وعيٍ ورُقيٍّ يعكس حقيقة مغاربة الهامش، أولئك الذين لا يُطالبون بأكثر من حقهم في الحياة الكريمة و التي تتلخص في طريق يُنهي عزلتهم، مركز صحي يُنقذ مرضاهم، مدرسة تحفظ لأبنائهم أملًا، وماءً صالحًا للشرب. فلم يرفعوا شعارات سياسية راديكالية، ولم يطلبوا امتيازات، بل فقط الحد الأدنى من الكرامة.
غير أن المتلقي السياسي، كما جرت العادة، لا يزال أسير عقلية المركز المتعالي، يتعامل مع أصوات الهامش لا بصفتها نداءً مستعجلًا، بل كـضجيج قابل للتهدئة، يُمكن تجاهله أو الالتفاف عليه ولم يدرك بعد أن صمت الجبال قد يخفي غضبًا هادئًا، لكنه عميق ومستمر, وأن ما بدا للبعض احتجاجًا بسيطًا، قد يكون في الحقيقة مؤشّرًا على تصدّع العلاقة بين المواطن والدولة.
فحين تضطر قرى الجبال لرفع الصوت، فاعلم أن منسوب الصبر قد نفد، وأن صمت الهامش لم يكن استسلامًا بل انتظارًا لإنصات لم يأتِ. وحين تكون الدولة غائبة في زمن السلم، مترددة في تقديم أبسط الخدمات، بل حتى في التواصل عبر وزرائها الذين ما فتئوا يخرجون علينا بين الفينة و الأخرى بإنجازات لم نلمس فيها سوى غلاء الأسعار و تدهور الأحوال و ضيقٍ ينهك الأعمار، ويُطفئ في النفوس شرارة الانتظار.
إن الشعوب لا تحتج فجأة، بل تتراكم في دواخلها الخيبات حتى تنفجر، لا طلبًا للفوضى، بل توقًا للكرامة. وآيت بوكماز، وغيرها من قرى النسيان، لم تُلوّح بالعصيان، بل خرجت بمسيرة حضارية تقول بلغة هادئة: "نحن هنا… لا تنسونا".
من هذه الأحداث الثلاثة تتضح ملامح سياسة عامة تنحو نحو الردة الاجتماعية: حكومة تشتغل بمنطق الحسابات لا البرامج، تدبر الأزمات بالبرود و أحيانا بردود أفعال آنية لا بخطط استباقية، وتنصت فقط حين يتحول الاحتجاج إلى تهديد. في مقابل ذلك، تتسع المسافة بين الدولة والمجتمع، وتتفكك الثقة، ويتحوّل المواطن من فاعل إلى غاضب... إلى مهاجر... إلى متمرد...
فأين اختفت الدولة الاجتماعية ؟ وأين معالم النموذج التنموي الذي قيل إنه تأسيس لعقد اجتماعي جديد ؟ وهل المطلوب أن ينهار كل شيء حتى تتحرك الحكومة ؟
ما يحدث في المغرب ليس وليد الصدفة، بل نتيجة اختيارات سياسية واقتصادية عمّقت الفوارق، وأضعفت الدولة في أهم أدوارها: حماية المواطن، تأطير المجتمع، وتوزيع التنمية بشكل عادل.
الاحتجاجات الصامتة، الهجرة القاتلة، والفوضى المتكررة... كلها إشارات إنذار. فهل تستفيق الدولة قبل أن يتحوّل الرماد إلى حريق يصعب احتواؤه؟ أم سنظل نعيد إنتاج نفس السياسات التي أوصلتنا إلى هذا المنحدر؟