هل استقلت "جمهورية تندوف" عن الجزائر؟.. إعلام الكابرانات يضع نظام العسكر في ورطة مع الشعب والمنتظم الدولي

تشهد الجزائر هذه الأيام حالة غليان غير مسبوقة في الشارع وأوساط المتتبعين، بعدما توالت عناوين الصحف والمواقع الموالية للنظام بشكل يثير الريبة والدهشة معاً، عناوين تحيل بشكل مباشر أو غير مباشر إلى ما يشبه "استقلال تندوف" عن الجزائر، أو بالأحرى إلى تسليمها بالكامل لجبهة البوليساريو الانفصالية.
الأمر لم يعد بالنسبة للكثيرين مجرد زلة قلم أو اجتهاد صحفي عابر، بل بدا وكأنه توجه منسق يضع نظام العسكر في ورطة حقيقية أمام الشعب والمنتظم الدولي، خاصة حينما تُقدَّم تندوف وكأنها كيان منفصل له حدوده مع الجزائر، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن تلك البقعة ليست سوى مخيمات بائسة تحت السيادة الجزائرية، تحولت إلى ورقة ابتزاز سياسي لا أكثر.
ذات المتابعين شددوا على أن تشابه صياغة العناوين ليس بريئاً، بل يوحي بوجود اتفاق ضمني بين نظام الكابرانات وإعلامه المأجور لترسيخ فكرة أن تندوف بالفعل أصبحت أرضاً للبوليساريو، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول الدوافع والأهداف الكامنة وراء هذا التوجه وفي هذه الظرفية بالذات.
وبينما يسارع الإعلام الرسمي والموازِي إلى تلميع صورة "الجمهورية المزعومة" عبر مانشيتات مثيرة للسخرية، تتعاظم التساؤلات داخل الجزائر وخارجها: هل نحن أمام تحول استراتيجي في الموقف الرسمي؟ أم مجرد انزلاق إعلامي يفضح مأزق نظام فقد بوصلة الخطاب السياسي والديبلوماسي معاً؟
من الناحية القانونية والسياسية، تندوف لم تستقل قط عن الجزائر، ولم يصدر أي قرار رسمي بتسليم سيادتها إلى البوليساريو، لأن الأراضي لا تزال تابعة للجزائر بحكم القانون الدولي والخرائط المعتمدة، وكل ما هناك أن الجزائر سمحت منذ سبعينيات القرن الماضي للبوليساريو بإدارة المخيمات والتصرف في شؤون السكان بقدر من الاستقلالية، وهو وضع استثنائي وغير مسبوق في القانون الدولي، حيث تتنازل دولة عن جزء من صلاحياتها السيادية لصالح حركة انفصالية. هذا التفويض الشاذ جعل الجزائر عرضة لانتقادات متكررة، خاصة من المغرب الذي يعتبر أن الجزائر تتنصل من مسؤولياتها كدولة مضيفة وتغطي على انتهاكات حقوق الإنسان داخل تلك المخيمات.
لكن لماذا تسمح الجزائر باستعمال هذه الصياغات الإعلامية وكأنها تسلم تندوف رسمياً للبوليساريو؟ هنا يبرز أكثر من احتمال؛ أولها أن النظام الجزائري يحاول إضفاء نوع من "الشرعية الرمزية" على البوليساريو في وقت فقدت فيه هذه الأخيرة الكثير من حضورها الدولي، خاصة بعدما تبين أن مقترح الحكم الذاتي المغربي يحظى بإجماع متزايد واعتراف متواصل من القوى الكبرى. أما الاحتمال الثاني فهو أن الجزائر تريد التلويح بورقة تندوف كرسالة سياسية مزدوجة: داخلياً لتلميع صورة النظام باعتباره حامياً لكيان "شقيق"، وخارجياً لمحاولة إقناع بعض الدول المترددة بأن البوليساريو "دولة قائمة فعلاً".
غير أن الواقع على الأرض يناقض هذه الدعاية الإعلامية. فالمخيمات تعيش انفلاتاً أمنياً خطيراً، عصابات مسلحة تتواجه في قلب مخيمات تندوف، والبوليساريو عاجزة عن فرض النظام حتى داخل مربع نفوذها الضيق. أكثر من ذلك، شهدت الأشهر الأخيرة موجات فرار جماعية لعناصر من الجبهة إلى المغرب، بعضهم حمل "علم السلام" وأعلن توبته، ما يعكس اهتزاز القناعة داخل التنظيم نفسه. فهل يمكن لدولة مزعومة أن تدعي السيادة وهي عاجزة عن تأمين بضعة آلاف من الأشخاص، ويهرب منها قادتها وجنودها؟
التصريح الأخير للسياسي الجزائري "عبد القادر بن قرينة" حول "الحدود مع الجمهورية الصحراوية" زاد الطين بلة. هل كان مجرد زلة لسان، أم تعبيراً عن توجه رسمي جديد؟ إذا كان مجرد خطأ لفظي فهو يكشف على الأقل عن ثقافة سياسية راسخة في الجزائر ترى البوليساريو كياناً موازياً، أما إذا كان مقصوداً فإنه يعني أن الجزائر تمضي أبعد في مسرحية الانفصال، حتى لو كلفها ذلك مواجهة أسئلة دولية محرجة حول التناقض بين اعترافها بالبوليساريو و سيطرتها الفعلية على تندوف.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل هذا كله تمهيد لتخلي الجزائر عن الجبهة بعدما خسرت رهاناتها الدبلوماسية أمام المغرب؟ أم هو مجرد إعادة تموضع إعلامي لتلميع صورة البوليساريو وإعطائها نفساً جديداً بعد سنوات من التآكل والانتكاسات؟ المنطق يقول إن الجزائر لن تتخلى بسهولة عن ورقة البوليساريو التي تعتبرها أداة استراتيجية في صراعها مع المغرب، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن اللعبة قاربت على نهايتها، وأن المجتمع الدولي يتجه أكثر فأكثر نحو دعم الحل المغربي. لذلك ربما نكون أمام محاولة جزائرية أخيرة لإعادة بعث "الجمهورية الوهمية" في الوعي الإعلامي، حتى وإن كان الواقع على الأرض يسير في اتجاه معاكس تماماً.