المغرب يصعد وإسبانيا ترتبك... قراءة في هواجس مدريد العسكرية

أغسطس 28, 2025 - 17:05
 0
المغرب يصعد وإسبانيا ترتبك... قراءة في هواجس مدريد العسكرية

لم يكن التقرير الأخير الذي أعدّه الضابط الإسباني إميليو خوسيه أرياس أوتيرو سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الكتابات والتحذيرات التي تعكس هاجسا راسخا في العقل الأمني الإسباني، وهو الخوف من صعود المغرب كقوة إقليمية مستقلة تمتلك مشروعا سياديا واضحا، يهدد صورة التفوق التقليدي لإسبانيا في غرب المتوسط. وعلى الرغم من أن العلاقات بين البلدين تتأرجح باستمرار بين الشراكة والصراع، إلا أن الخطاب العسكري الإسباني يكشف عن حالة ارتباك واضحة أمام التحولات الجارية في الضفة الجنوبية.

لقد انتقل المغرب خلال العقدين الأخيرين من جيش دفاعي محدود القدرات إلى قوة إقليمية تبني عناصر الردع الاستراتيجي بخطى ثابتة. فالتحديث المستمر للترسانة العسكرية، بما في ذلك تطوير سلاح الجو بطائرات F-16V والسعي إلى اقتناء مقاتلات الجيل الخامس F-35، لم يكن مجرد صفقة تسليح عابرة، بل جزء من رؤية ملكية بعيدة المدى تسعى إلى تمكين القوات المسلحة الملكية من حماية السيادة الوطنية وتأمين المجال الاستراتيجي للمملكة من الصحراء إلى الأطلسي والمتوسط. في المقابل، يبدو أن إسبانيا تعاني من تباطؤ مزمن في تحديث جيشها، خصوصا في مجال الطيران والبحرية، الأمر الذي يجعل المقارنة الميدانية تميل تدريجيا لصالح المغرب.

هذا التحول يفسر الانتقادات التي وجهها أوتيرو لبلاده حين وصف ردود فعلها بالارتجالية وغير المؤطرة باستراتيجية متكاملة. فمدريد، التي لم تحدد بعد موقعها الحقيقي تجاه المغرب، تتأرجح بين منطق الشريك الجنوبي الذي تحتاجه أوروبا وبين منطق الخصم التاريخي الذي يهدد حدودها ومصالحها. وبين هذين المنطقين يتغذى اليمين المتطرف الإسباني من ورقة التخويف، مستعملا خطاب "التهديد المغربي" لتبرير مواقفه الداخلية وربطها بملفات الهجرة والحدود وقضية سبتة ومليلية.

وتتجلى خطورة هذه الورقة أكثر في وضعية المدينتين المحتلتين اللتين لا تستفيدان من مظلة الحماية الأطلسية بموجب المادة الخامسة من ميثاق الناتو. هذا الاستثناء القانوني يضعف موقف الدفاع الإسباني في حال أي تهديد خارجي، ويكشف أن أي مواجهة محتملة هناك ستبقى شأنا إسبانيا صرفا، بعيدا عن أي التزام أوتوماتيكي من الحلف. ولذلك فإن مجرد التذكير بهذه الحقيقة يشكل مصدر قلق دائم للدوائر السياسية والعسكرية في مدريد، لأنها تعي أن الخلل في ميزان الحماية ليس في صالحها.

ويزداد هذا القلق الإسباني مع الخطوة السيادية التي أقدم عليها المغرب سنة 2020 حين سنّ قوانين ترسيم حدوده البحرية من طنجة إلى الكويرة، فارضا واقعا قانونيا جديدا في المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. فالمملكة لم تكتف بمجرد إعلان سياسي، بل استندت إلى القانون الدولي للبحار لترسيم مجالها البحري بامتداد 200 ميل، شاملا المنطقة المقابلة لجزر الكناري، ما اعتبرته مدريد مساساً مباشرا بمصالحها الاستراتيجية. ورغم محاولات إسبانيا الاعتراض، فإن الرباط تمسكت بموقفها وأكدت أن سيادتها على مياهها لا تقبل المساومة، وهو ما أضاف بعداً آخر للصراع الصامت بين الجارين.

وفي المحصلة، يتضح أن المغرب لا يتحرك بمنطق الهجوم وإنما بمنطق تثبيت الردع، إذ يواكب تحديث جيشه بتوسيع تحالفاته الدبلوماسية مع قوى وازنة مثل واشنطن وباريس وتل أبيب وأنقرة والهند وباكستان والبرازيل، مقدما نفسه كقوة استقرار في إفريقيا والبحر المتوسط. أما إسبانيا، فإنها تجد نفسها بين تراجع وزنها داخل الاتحاد الأوروبي وصعود المغرب الذي يفرض معادلات جديدة. ومن هنا تصبح التقارير العسكرية الإسبانية نوعا من الاعتراف الضمني بفقدان التفوق، أكثر منها تحذيرا من خطر وشيك. فمدريد لم تعد تتعامل مع جار جنوبي ضعيف، بل مع دولة-أمة رسخت مشروعها السيادي وجعلت من جيشها أداة لحماية هذا المشروع وضمان استمراريته.