لماذا يعجز الناتج المحلي عن قياس اقتصاد اليوم؟
في الوقت الذي تتسارع فيه التحوّلات الرقمية وتتغيّر طبيعة القيمة الاقتصادية، تعود الكاتبة والاقتصادية البريطانية ديان كويل لتطرح سؤالاً جوهرياً: هل ما زال الناتج المحلي الإجمالي قادراً على قياس اقتصاد لم تعد أثمن مكوناته ملموسة؟
في كتابها الجديد «مقياس التقدّم: عدّ ما يهمّ فعلاً»، تقدّم كويل رؤية نقدية وجريئة حول قصور الإحصاءات الاقتصادية التقليدية، وتدعو إلى إطار جديد لقياس الثروة يتلاءم مع عصر الاقتصاد الرقمي واللامادي.
الكتاب زاخر بالأفكار بين الاقتصاد والإحصاء والأخلاق، لكنه يتجنب الدخول في صلب السؤال: لماذا وصلنا إلى هذا الوضع، ومن حرّك بوصلته؟
تتزايد أهميّة أسئلة النمو والإنتاجية في النقاش العام داخل الديمقراطيات الغربية. تخصص ديان كويل، وهي أستاذة السياسات العامة بجامعة كامبريدج وواحدة من أبرز الاقتصاديين المعاصرين، كتابها الجديد لبحث جذور هذا الجدل، وتقديم إطار نظري متماسك لمعالجة الخلل المتراكم في أساليب قياس الاقتصاد.
أدوات القياس القديمة
تقول كويل إن المشكلة لا تكمن فقط في أدوات القياس القديمة، بل في تجاهل قطاعات كاملة من العمل غير المُسجَّل ـ مثل الرعاية والعمل المنزلي ـ رغم أنها تمثل ركائز أساسية للنشاط الاقتصادي.
يركز الكتاب على إظهار أوجه القصور في الإطار الإحصائي الذي ما زال يعتمد على منظومة وضعت في الأربعينيات لقياس اقتصادات صناعية صلبة.
أما اليوم، فالغرب يعيش اقتصاداً مختلفاً تماماً، تغيّر بفعل ثلاث قوى متشابكة: العولمة، والرقمنة، والتمويلية، وهي قوى لم تسمّها كويل صراحة، لكنها ترتكز عليها في تحليلها.
هذه التحولات رفعت مستويات المعيشة لعقود، لكنها أنتجت أيضاً نظاماً اقتصادياً أكثر تعقيداً وأقل شفافية.
اقتصاد عديم الوزن
تعود كويل في كتابها الجديد إلى فكرة طرحتها قبل نحو ثلاثة عقود في كتابها «العالم عديم الوزن»، حين جادلت بأن القيمة الاقتصادية لم تعد تقاس بوزن السلع المنتَجة، بل بالخدمات والأصول غير الملموسة، من البرمجيات إلى البيانات إلى الخبرة الفنية.
وهذا الاتجاه، كما تقول، أصبح اليوم أكثر وضوحاً: حتى شركات التصنيع الكبرى باتت تعتمد في إيراداتها على خدمات مرتبطة بالمنتج أكثر من اعتمادها على المنتج ذاته، مثل الصيانة والتحليل والبرمجيات المدمجة.
ومع تفكك سلاسل القيمة عبر الحدود، بات من شبه المستحيل تحديد أين تخلّق القيمة فعلياً داخل هذه الشبكات العالمية المعقدة. ومن ثم، فإن الاقتصادات الحديثة بحاجة إلى إطار أكثر مرونة وشمولاً لفهم ما تنتجه فعلاً.
لماذا أخفق النمو؟
تبدأ كويل كتابها بشرح أهمية النمو الاقتصادي ودوره في خفض التوترات السياسية وامتصاص الصدمات الاجتماعية.
وتشير إلى أن تباطؤ الإنتاجية طوال السنوات السبع عشرة الماضية في معظم دول مجموعة السبع، منذ أزمة 2008، ترافق مع صعود موجات شعبوية يسارية ويمينية.
ورغم الانتشار الواسع للتكنولوجيا الرقمية في هذه الفترة، بقيت مكاسب الإنتاجية محدودة، وهو لغز حيّر الاقتصاديين.
ويزداد هذا اللغز تعقيداً مع دخول الذكاء الاصطناعي مرحلة جديدة، حيث تعد الشركات بإحداث «ثورة إنتاجية» بينما تشير كويل إلى أنه سيجعل القياس أكثر صعوبة ويفاقم التناقضات الحالية.
الإحصاءات مرآة للقوة
تغوص كويل في تاريخ الإحصاءات الاقتصادية لتوضح كيف تشكل أساساً ضرورياً للحكم الرشيد. فالدولة لا يمكنها إدارة اقتصادها دون أدوات قياس دقيقة؛ وبدونها تصبح «عمياء» أمام الواقع.
بيد أن الإحصاءات ليست محايدة، فهي نتاج بنى القوة السائدة، وفي الوقت نفسه تخلق واقعاً جديداً لأنها تؤثر في السياسات التي تُبنى عليها.
وترصد كويل فجوات كبيرة في النظام الإحصائي المعتمد اليوم، خصوصاً بعد التحولات التي أحدثتها الرقمنة والتنقل العالمي لعوامل الإنتاج، وكذلك في قياس الأسعار والتضخم.
وتخْلُص إلى أن الناتج المحلي الإجمالي بات عاجزاً عن تمثيل قيمة البيئة أو التأثير الحقيقي للأنشطة الاقتصادية غير الملموسة.
هل تعمّد أحد جعل الاقتصاد غامضاً؟
رغم أن كويل تشرح كيف تغيّر الاقتصاد، إلا أن الكاتب جيمس هودجسون يرى أن كتابها يتجنب سؤالاً جوهرياً: لماذا أصبح الاقتصاد على هذه الصورة؟ وهل كان تضاؤل قدرة الدولة على القياس – وبالتالي التدخل – مجرد نتيجة عفوية؟ أم كان مقصوداً؟
يؤكد الباحثون في تاريخ النيوليبرالية أن تحرير رأس المال من الرقابة الديمقراطية منذ السبعينيات كان مشروعاً منظماً نفذته نخب سياسية واقتصادية، ما أدى إلى اقتصاد عالمي شديد التعقيد وصعب القياس، وبالتالي أقل خضوعاً لإرادة الدول.
ومن ثم، يخشى هودجسون أن أي محاولة لتطوير أدوات القياس وتمكين الدولة – كما تقترح كويل – قد تصطدم بمقاومة النخب نفسها التي استفادت من هذا الوضع.
هل تتراجع النيوليبرالية؟
يعترف هودجسون بأن الحديث عن نهاية النيوليبرالية قد يكون مبكراً، لكن الإيديولوجيا الحاكمة للسياسات الاقتصادية الغربية باتت تحت ضغط متزايد، خاصة بعد السياسات الحمائية لإدارة ترامب وعودة الدولة إلى التدخل الصناعي.
ومع ذلك، لا تتناول كويل هذا التحول في كتابها رغم مشاركتها في مؤتمر جامعي حول "السياسة الصناعية بعد النيوليبرالية".
ويرى هودجسون أن هذا الغياب يمثل فجوة في عمل يهدف إلى إعادة تعريف كيفية قياس وتوجيه الاقتصاد. بل يذهب أبعد باقتراح «خيار متمرّد» مفاده أن الحل قد لا يكون في توسيع أدوات القياس لاستيعاب الاقتصاد الحالي، بل إصلاح الاقتصاد نفسه ليصبح أكثر قابلية للقياس ولتحقيق رفاه أوسع، كما كان الحال قبل عقود.
نحو نقاش جديد
في خاتمة الكتاب، تقدّم كويل بديلاً لإطار الناتج المحلي الإجمالي، لكنها تستبعد مقاييس الرفاه باعتبارها ذاتية ومنحازة.
وتدعو بدلاً من ذلك إلى إطار يقوم على قياس الثروة الشاملة: أي رأس المال المادي والبشري والاجتماعي والتنظيمي والبيئي، وعلاقات التكامل بينها. هذا الإطار ما يزال مبدئياً، لكنه – من وجهة نظرها – يجب أن يكون نقطة انطلاق لنقاش أوسع حول كيفية استعادة قدرة الدول على فهم ما يجري داخل اقتصاداتها.
ويرى هودجسون أن الكتاب يفتح باباً جديداً للحوار في الاقتصاد السياسي، ويشكّل إضافة مهمة في مسيرة كويل البحثية، حتى وإن ترك بعض الأسئلة دون إجابة.
المصدر: موقع إل إس إي يو كيه
لماذا يعجز الناتج المحلي عن قياس اقتصاد اليوم؟
2025/12/06 أرقامفي الوقت الذي تتسارع فيه التحوّلات الرقمية وتتغيّر طبيعة القيمة الاقتصادية، تعود الكاتبة والاقتصادية البريطانية ديان كويل لتطرح سؤالاً جوهرياً: هل ما زال الناتج المحلي الإجمالي قادراً على قياس اقتصاد لم تعد أثمن مكوناته ملموسة؟
في كتابها الجديد «مقياس التقدّم: عدّ ما يهمّ فعلاً»، تقدّم كويل رؤية نقدية وجريئة حول قصور الإحصاءات الاقتصادية التقليدية، وتدعو إلى إطار جديد لقياس الثروة يتلاءم مع عصر الاقتصاد الرقمي واللامادي.
الكتاب زاخر بالأفكار بين الاقتصاد والإحصاء والأخلاق، لكنه يتجنب الدخول في صلب السؤال: لماذا وصلنا إلى هذا الوضع، ومن حرّك بوصلته؟
تتزايد أهميّة أسئلة النمو والإنتاجية في النقاش العام داخل الديمقراطيات الغربية. تخصص ديان كويل، وهي أستاذة السياسات العامة بجامعة كامبريدج وواحدة من أبرز الاقتصاديين المعاصرين، كتابها الجديد لبحث جذور هذا الجدل، وتقديم إطار نظري متماسك لمعالجة الخلل المتراكم في أساليب قياس الاقتصاد.
أدوات القياس القديمة
تقول كويل إن المشكلة لا تكمن فقط في أدوات القياس القديمة، بل في تجاهل قطاعات كاملة من العمل غير المُسجَّل ـ مثل الرعاية والعمل المنزلي ـ رغم أنها تمثل ركائز أساسية للنشاط الاقتصادي.
يركز الكتاب على إظهار أوجه القصور في الإطار الإحصائي الذي ما زال يعتمد على منظومة وضعت في الأربعينيات لقياس اقتصادات صناعية صلبة.
أما اليوم، فالغرب يعيش اقتصاداً مختلفاً تماماً، تغيّر بفعل ثلاث قوى متشابكة: العولمة، والرقمنة، والتمويلية، وهي قوى لم تسمّها كويل صراحة، لكنها ترتكز عليها في تحليلها.
هذه التحولات رفعت مستويات المعيشة لعقود، لكنها أنتجت أيضاً نظاماً اقتصادياً أكثر تعقيداً وأقل شفافية.
اقتصاد عديم الوزن
تعود كويل في كتابها الجديد إلى فكرة طرحتها قبل نحو ثلاثة عقود في كتابها «العالم عديم الوزن»، حين جادلت بأن القيمة الاقتصادية لم تعد تقاس بوزن السلع المنتَجة، بل بالخدمات والأصول غير الملموسة، من البرمجيات إلى البيانات إلى الخبرة الفنية.
وهذا الاتجاه، كما تقول، أصبح اليوم أكثر وضوحاً: حتى شركات التصنيع الكبرى باتت تعتمد في إيراداتها على خدمات مرتبطة بالمنتج أكثر من اعتمادها على المنتج ذاته، مثل الصيانة والتحليل والبرمجيات المدمجة.
ومع تفكك سلاسل القيمة عبر الحدود، بات من شبه المستحيل تحديد أين تخلّق القيمة فعلياً داخل هذه الشبكات العالمية المعقدة. ومن ثم، فإن الاقتصادات الحديثة بحاجة إلى إطار أكثر مرونة وشمولاً لفهم ما تنتجه فعلاً.
لماذا أخفق النمو؟
تبدأ كويل كتابها بشرح أهمية النمو الاقتصادي ودوره في خفض التوترات السياسية وامتصاص الصدمات الاجتماعية.
وتشير إلى أن تباطؤ الإنتاجية طوال السنوات السبع عشرة الماضية في معظم دول مجموعة السبع، منذ أزمة 2008، ترافق مع صعود موجات شعبوية يسارية ويمينية.
ورغم الانتشار الواسع للتكنولوجيا الرقمية في هذه الفترة، بقيت مكاسب الإنتاجية محدودة، وهو لغز حيّر الاقتصاديين.
ويزداد هذا اللغز تعقيداً مع دخول الذكاء الاصطناعي مرحلة جديدة، حيث تعد الشركات بإحداث «ثورة إنتاجية» بينما تشير كويل إلى أنه سيجعل القياس أكثر صعوبة ويفاقم التناقضات الحالية.
الإحصاءات مرآة للقوة
تغوص كويل في تاريخ الإحصاءات الاقتصادية لتوضح كيف تشكل أساساً ضرورياً للحكم الرشيد. فالدولة لا يمكنها إدارة اقتصادها دون أدوات قياس دقيقة؛ وبدونها تصبح «عمياء» أمام الواقع.
بيد أن الإحصاءات ليست محايدة، فهي نتاج بنى القوة السائدة، وفي الوقت نفسه تخلق واقعاً جديداً لأنها تؤثر في السياسات التي تُبنى عليها.
وترصد كويل فجوات كبيرة في النظام الإحصائي المعتمد اليوم، خصوصاً بعد التحولات التي أحدثتها الرقمنة والتنقل العالمي لعوامل الإنتاج، وكذلك في قياس الأسعار والتضخم.
وتخْلُص إلى أن الناتج المحلي الإجمالي بات عاجزاً عن تمثيل قيمة البيئة أو التأثير الحقيقي للأنشطة الاقتصادية غير الملموسة.
هل تعمّد أحد جعل الاقتصاد غامضاً؟
رغم أن كويل تشرح كيف تغيّر الاقتصاد، إلا أن الكاتب جيمس هودجسون يرى أن كتابها يتجنب سؤالاً جوهرياً: لماذا أصبح الاقتصاد على هذه الصورة؟ وهل كان تضاؤل قدرة الدولة على القياس – وبالتالي التدخل – مجرد نتيجة عفوية؟ أم كان مقصوداً؟
يؤكد الباحثون في تاريخ النيوليبرالية أن تحرير رأس المال من الرقابة الديمقراطية منذ السبعينيات كان مشروعاً منظماً نفذته نخب سياسية واقتصادية، ما أدى إلى اقتصاد عالمي شديد التعقيد وصعب القياس، وبالتالي أقل خضوعاً لإرادة الدول.
ومن ثم، يخشى هودجسون أن أي محاولة لتطوير أدوات القياس وتمكين الدولة – كما تقترح كويل – قد تصطدم بمقاومة النخب نفسها التي استفادت من هذا الوضع.
هل تتراجع النيوليبرالية؟
يعترف هودجسون بأن الحديث عن نهاية النيوليبرالية قد يكون مبكراً، لكن الإيديولوجيا الحاكمة للسياسات الاقتصادية الغربية باتت تحت ضغط متزايد، خاصة بعد السياسات الحمائية لإدارة ترامب وعودة الدولة إلى التدخل الصناعي.
ومع ذلك، لا تتناول كويل هذا التحول في كتابها رغم مشاركتها في مؤتمر جامعي حول "السياسة الصناعية بعد النيوليبرالية".
ويرى هودجسون أن هذا الغياب يمثل فجوة في عمل يهدف إلى إعادة تعريف كيفية قياس وتوجيه الاقتصاد. بل يذهب أبعد باقتراح «خيار متمرّد» مفاده أن الحل قد لا يكون في توسيع أدوات القياس لاستيعاب الاقتصاد الحالي، بل إصلاح الاقتصاد نفسه ليصبح أكثر قابلية للقياس ولتحقيق رفاه أوسع، كما كان الحال قبل عقود.
نحو نقاش جديد
في خاتمة الكتاب، تقدّم كويل بديلاً لإطار الناتج المحلي الإجمالي، لكنها تستبعد مقاييس الرفاه باعتبارها ذاتية ومنحازة.
وتدعو بدلاً من ذلك إلى إطار يقوم على قياس الثروة الشاملة: أي رأس المال المادي والبشري والاجتماعي والتنظيمي والبيئي، وعلاقات التكامل بينها. هذا الإطار ما يزال مبدئياً، لكنه – من وجهة نظرها – يجب أن يكون نقطة انطلاق لنقاش أوسع حول كيفية استعادة قدرة الدول على فهم ما يجري داخل اقتصاداتها.
ويرى هودجسون أن الكتاب يفتح باباً جديداً للحوار في الاقتصاد السياسي، ويشكّل إضافة مهمة في مسيرة كويل البحثية، حتى وإن ترك بعض الأسئلة دون إجابة.
المصدر: موقع إل إس إي يو كيه
