هل يشرب خامنئي من كأس السم الذي شرب منه الخميني؟

ديسمبر 12, 2025 - 12:35
 0
هل يشرب خامنئي من كأس السم الذي شرب منه الخميني؟

"طوبى لكم أيها الشعب! طوبى لكم رجالا ونساء! طوبى للمحاربين والأسرى والمفقودين وعائلات الشهداء العظيمة! وويل لي أنا الذي مازلت على قيد الحياة، أتجرع كأس السم الملوث بقبول القرار، وأشعر بالعار مقابل عظمة وتضحية هذا الشعب الكبير... ". هكذا تحدث 

الخميني في الخطاب الذي أعلن فيه قبول قرار مجلس الآمن وقف إطلاق النار مع العراق في 20 يوليو 1988.  

هل يمكن أن يتكرر المشهد التاريخي الذي وقع في صيف عام 1988، حين فاجأ آية الله الخميني العالم بقبوله وقف إطلاق النار مع العراق بعد سنوات من الحرب الضروس، قائلاً إنه "تجرع كأس السم" حفاظًا على النظام؟

 السؤال يطرح نفسه اليوم في ظل الظروف الداخلية والخارجية التي تحيط إيران خاصة بعد تبعات الحرب الأخيرة مع إسرائيل: هل يمكن أن يقدم المرشد الأعلى علي خامنئي، أو حتى من يخلفه، على قبول شروط الولايات المتحدة بشأن التخلي عن البرنامج النووي، ووقف تطوير الصواريخ الباليستية، ورفع اليد عن ما تبقى من الأذرع الإقليمية، مقابل رفع العقوبات وضمان بقاء النظام؟

الواقعية السياسية تفترض أن البقاء هو المبدأ الأعلى في سلوك الدول، وأن المبادئ والشعارات يمكن أن تعلق إذا تعارضت مع المصالح الوجودية. هذا بالضبط ما فعله الخميني عندما تراجع عن رفضه القاطع لأي هدنة مع صدام حسين. فرغم الخطاب الثوري المتشدد الذي اتهم كل من يدعو للصلح بالخيانة، وجد الخميني نفسه في لحظة حساب عسير أمام معطيات تشير إلى أن النظام على وشك الانهيار. كانت إيران منهكة عسكريا واقتصاديا، ومحاصرة دوليا، وتعاني من اضطرابات داخلية أبرزها تمرد منظمة مجاهدي خلق. كما بدأ الحرس الثوري يفقد قدرته على الحشد وتحقيق الانتصار، خاصة بعد سلسلة هزائم ميدانية، والقصف الكيميائي الذي طال المدن الإيرانية.

حينها، قدم القرار 598 لمجلس الأمن، والذي تضمن وقفا فوريا لإطلاق النار تحت إشراف دولي. ورغم أن القيادة الإيرانية رفضته مرارا في السابق، لكن عندما جاءت لحظة الحسم، تمت الموافقة عليه، ليقول الخميني عبارته الشهيرة بأنه قبل القرار كما يقبل "تجرّع كأس السم"، معتبرا أن استمرار الحرب كان سيؤدي إلى سقوط الجمهورية الإسلامية نفسها.

اليوم، وبعد نحو أربعة عقود، تواجه إيران ظروفا لا تقل خطورة. العقوبات الاقتصادية الخانقة أضعفت الاقتصاد الإيراني إلى حد كبير، مع تراجع قيمة العملة، وارتفاع التضخم، وزيادة معدلات الفقر والبطالة، وتصاعد الغضب الشعبي، كما ظهر في مناسبات مختلفة مثل الاحتجاجات الواسعة التي تلت مقتل مهسا أميني. أما على الصعيد الخارجي، فقد باتت إيران محاصرة سياسيا في ملفات عدة، ومع تصاعد الضغط الدولي والإقليمي على أدواتها في اليمن ولبنان والعراق بعد القضاء على نظام الأسد في سوريا، أصبحت تكلفة استمرار المشروع الإقليمي أعلى من منافعه.

وفي ظل هذه الأوضاع، يمكن افتراض أن خامنئي، الذي رغم خطابه الأيديولوجي المتشدد، لطالما اتخذ قرارات براغماتية في لحظات حساسة، قد ينظر بجدية إلى صفقة كبرى تضمن بقاء النظام وتعيد إيران إلى النظام المالي العالمي. قد لا يحدث ذلك اليوم، لكن خلفه السياسي والديني قد يجد نفسه أمام المعادلة نفسها: الحفاظ على "روح" النظام مقابل التراجع التكتيكي عن بعض أدواته.

الشروط الأمريكية الإسرائيلية ليست سهلة. التخلي عن التخصيب العالي، ووقف تطوير الصواريخ الباليستية، وتفكيك الشبكة الإقليمية من الميليشيات، والقبول بقواعد النظام الدولي. هذا يعني عمليا التخلي عن جزء كبير من "مشروع الثورة" الذي تأسست عليه الجمهورية الإسلامية. لكنها، في المقابل، تفتح الباب أمام إعادة الاندماج مع الاقتصاد العالمي، وربما حتى تطبيع مع بعض الدول الإقليمية، وضمانات بعدم السعي لإسقاط النظام الذي قد تكون له نتائج كارثية على المنطقة بالنظر إلى التركيبة المعقدة للمجتمع الإيراني.

سيكون لهذا الخيار كلفة داخلية باهظة. التيار المتشدد داخل الحرس الثوري وطبقات من رجال الدين سيعارضون بشدة أي تراجع بهذا المستوى. كما أن ما تبقى من أذرع إيران في الخارج قد تجد نفسها معزولة، أو تترك لمصيرها، أو في أقصى الحالات قد تكون أدوات تفاوض، ما قد يؤدي إلى اضطرابات جديدة في مواقع النفوذ الإيراني. لكن، مع ذلك، إذا وصلت لحظة الحقيقة، فإن الخطاب السياسي يمكن أن يعيد تأطير هذا التنازل باعتباره "مصلحة شرعية" أو "مرحلة انتقالية لحماية جوهر الثورة"، تماما كما فعل الخميني.

التاريخ الإيراني الحديث يعلمنا أن حتى أكثر القادة تشددا قد يتصرفون ببراغماتية حادة عندما يكون بقاء النظام مهددا. ما فعله الخميني لم يكن تراجعا عن مبادئه بقدر ما كان انتصارا لعقيدة البقاء. وإذا ما توفرت الظروف نفسها، فليس من المستبعد أن يسير خامنئي، أو من يأتي من بعده، في الطريق ذاته، ويتجرع كأس السم مرة أخرى، ولكن هذه المرة في ملف الصواريخ والنووي، لا في ميادين الحرب التقليدية.