‏مستقبل التقاعد .. هل يختفي مفهوم سن المعاش بالكامل؟

ديسمبر 8, 2025 - 09:20
 0
‏مستقبل التقاعد .. هل يختفي مفهوم سن المعاش بالكامل؟

"في أقل من 10 إلى 20 سنة، قد يصبح العمل اختياريًا"، جملة قصيرة أدلى بها "إيلون ماسك" قبل عدة أيام، لكنها في حال تحققها ستعيد رسم علاقة الإنسان بالوظيفة والوقت والدخل.

ففكرة أن يتحول العمل من ضرورة إلى اختيار ليست مجرد ترف فكري، بل إنها سيناريو محتمل قد يفرضه تسارع التكنولوجيا وتحول البنية الاقتصادية والاجتماعية في العالم.

وتؤكد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ما لا يقل عن 27% من الوظائف الحالية معرضة لمستوى عالٍ من الأتمتة خلال العقدين القادمين، وهو ما يعزز احتمالات تقلّص دور العمل البشري في الاقتصاد.

وإذا صحت رؤية "ماسك"، فإن واحدًا من أكثر المفاهيم رسوخًا وهو التقاعد سيكون أول من يتلقى الصدمة، فالنظام الحالي للتقاعد مبني على معادلة بسيطة وهي أن كل جيل يعمل، ليس فقط ليكسب دخله، بل ليمول معاشات الجيل الذي سبقه.

هذا النموذج ظهر في منتصف القرن الماضي حين كان عدد الشباب أكبر، ومتوسط الأعمار أقل، لكن اليوم يبدو أن المعادلة تفقد أساسها مع زيادة متوسط العمر، وتراجع معدلات المواليد، وبالتالي تقلصت قاعدة الممولين واتسعت قاعدة المستفيدين.

لو أضفنا إلى ذلك فكرة أن العمل ذاته قد يصبح اختياريًا مستقبلًا كما توقع ماسك فإن الخطر يصبح أكبر بكثير حيث إن أي نظام يعتمد تمويله على "العاملين الجدد" سيجد نفسه أمام شريحة متناقصة من المساهمين.

ومع زيادة الشيخوخة، وانخفاض عدد المواليد الجدد، أو حتى قرار الأجيال الجديدة بتقليل ساعات العمل أو عدم العمل على الإطلاق في حال انتشار الأتمتة والذكاء الاصطناعي، فإن قضية التقاعد قد تنهار أو تضطر إلى إعادة تعريف جذري لدورها وكيفية تمويلها.

ارتفاع سن التقاعد

في السنوات الأخيرة، واجهت أنظمة التقاعد حول العالم اختلالًا بنيويًا جعل فكرة التقاعد في عمر ثابت شبه غير مستدامة، ويعود السبب الجوهري إلى وقوع تغيرات ديموغرافية عميقة جراء ارتفاع متوسط العمر، وزيادة نسبة كبار السن، بينما تقل نسبة الشباب العاملين.

وقبل نحو مائة عام، كان عدد العاملين يكفي بوفرة لدعم أجيال المتقاعدين لكن اليوم الصورة تبدلت، وأصبح اعتماد أنظمة المعاشات على اشتراكات العاملين يؤثر فيه بشكل مباشر هذا الانحسار في القاعدة العاملة.

هذه الديناميكية دفعت العديد من الدول إلى رفع سن التقاعد القانوني أو ربطه بمتوسط العمر المتوقع، ولم يعد رفع السن خيارًا رفاهيًا في العديد من الدول، بل أصبح إجراء ضروريا للحفاظ على استقرار صناديق التقاعد وضمان قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية في المستقبل.

وتوقع تقرير حديث لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يرتفع متوسط سن التقاعد العادي للدخول إلى سوق العمل في العديد من دول المنظمة إلى نحو 66.4 عام للذكور و65.9 عام للإناث.

الدول التي لديها أفضل أنظمة تقاعد، وفقًا لمؤشر "ميرسر للمعاشات التقاعدية" لعام 2024 (مقارنة بين 48 دولة):

الترتيب

الدولة

القيمة الإجمالية

1

هولندا

84.8

2

آيسلندا

83.4

3

الدنمارك

81.6

4

سنغافورة

78.7

5

فنلندا

75.9

6

النرويج

75.2

فعلى سبيل المثال، أقر برلمان الدنمارك رفع سن التقاعد تدريجيًا في 2025 إلى 70 عامًا للأشخاص المولودين بعد عام 1970، على أن يطبق بالكامل بحلول عام 2040، وجاء قرار الدنمارك استجابة لتزايد متوسط العمر المستمر وتراجع نسبة العاملين مقارنة بالمتقاعدين.

كذلك رفعت التشيك وسلوفينيا سن التقاعد القانوني من 65 إلى 67 عامًا ضمن سلسلة إصلاحات صناديق التقاعد في السنوات الأخيرة.

أهمية رفع سن التقاعد ومخاطره

يساعد رفع سن التقاعد الحكومات على تخفيف العبء المالي على صناديق المعاشات ويمنحها مهلة للتكيف مع التحولات الديموغرافية، كما يشجع الأفراد على البقاء في سوق العمل لفترات أطول بما يضمن استمرار المهارات ويدعم الناتج الاقتصادي.

لكن هذا التوجه ينقل في المقابل جزءًا من العبء إلى الفئات العاملة، خصوصًا أولئك في المهن الشاقة أو الوظائف غير المستقرة، وقد يثير مشكلات عدالة اجتماعية كبيرة إذا لم توفر تعويضات أو بدائل ملائمة.

وتؤكد النماذج العملية سرعة هذا التحول، ففي ألمانيا نفذت الحكومة إصلاحات تقوض مسارات انخفاض المنافع، وتضمنت حوافز ضريبية لتشجيع استمرار العمل بعد سن 67 مع إتاحة دخل معفى ضريبياً لحدود محددة للعاملين فوق هذه السن بدءًا من 2026.

الخطر الذي يغفل عنه كثيرون يكمن في بنية أسواق العمل نفسها فنحو 58% من العمال عالميًا يعملون في الاقتصاد غير الرسمي (حوالي ملياري عامل)، ونسب الإطار غير الرسمي أعلى بكثير في دول إفريقيا، وآسيا والمحيط الهادئ، والبلدان النامية عمومًا.

أي أن جزءًا كبيرًا من القوى العاملة لا يشملها تمويل معاشات من الأساس، وبالتالي تأجيل سن التقاعد عليها يعني احتمالًا متزايدًا لاستمرار العمل تحت ظروف صحية واقتصادية خطرة بدون شبكة أمان كافية.

أخيرًا، لا تعد زيادة سن التقاعد حلاً تقنيًا محايدًا؛ هي إجراء له منافع مالية على الموازنة العامة لكنه يحمّل مجتمعات بأبعاد صحية واجتماعية واضحة، لذا تظل هناك حاجة ملحة إلى حلول واقعية تعمل على تحقيق عدة فوائد.

من بينها توسيع التغطية الاجتماعية لتشمل العاملين غير الرسميين، ووضع برامج صحية ومهنية للوظائف المجهدة، ووجود آليات دفع مرنة تسمح بمعاشات جزئية للتقاعد التدريجي، وسياسات سوق عمل تشجع على التوظيف المستدام لكبار السن.

غياب هذه الحلول يعني أن رفع السن قد يحول ببساطة مشكلة مالية حكومية إلى أزمة اجتماعية وصحية واسعة النطاق.

من سيستفيد ومن سيتضرر؟

بدأت فكرة التقاعد كمرحلة ثابتة وواضحة تتراجع مع تغيّر شكل المجتمعات وارتفاع متوسط الأعمار وتباطؤ نمو القوى العاملة.

ومع إعادة الدول حساباتها لمواجهة الضغوط الديموغرافية وضمان قدرة أنظمة المعاشات على الصمود، بات الانتقال من سن تقاعد موحدة إلى مسارات أكثر مرونة خطوة يراها البعض ضرورية.

لكن هذه الخطوة تطرح في الوقت نفسه أسئلة حول العدالة، ومن الذي سيستفيد من هذا التغيير، ومن الذي قد يجد نفسه مضطرًا لتحمل تبعاته؟ فالإجراء الذي يساعد الحكومات ماليًا قد يتحول إلى عبء ثقيل على من لا يملك صحة جيدة أو عملًا مستقرًا.

أكبر صناديق التقاعد بحسب دراسة موقع ثينكينج أهيد إنستيتيوت:

الترتيب

الدولة

حجم الصندوق

(تريليون دولار أمريكي)

1

الولايات المتحدة

11.7

2

اليابان

2.1

3

كندا

1.8

4

هولندا

1.1

5

أستراليا

1.1

ومن بين المستفيدين الرئيسيين أولئك الذين يتمتعون بمهارات عالية، وصحة جيدة، وتاريخ وظيفي مستقر، فرفع سن التقاعد يمنحهم فرصة للعمل سنوات إضافية، ما يعني زيادة مدخراتهم أو معاشاتهم التراكمية.

كذلك تستفيد الشركات التي تستطيع الحفاظ على موظفين مخضرمين بدلاً من خسارة الخبرات وتدريب جديدين، ما يُقلل تكاليف الاستبدال ويحافظ على الإنتاجية.

في المقابل، ستكون الفئات الهشة هي الأكثر عرضة للخسارة مثل أصحاب الأعمال اليدوية والمهن المجهدة بدنيًا، وذوي الدخل المنخفض، والعاملين في القطاع غير الرسمي، ومن يعانون مشاكل صحية مزمنة.

هؤلاء غالبًا لا يملكون القدرة على العمل حتى أعمار متقدمة، أو لا يتمتعون بتغطيات معاشات أو رعاية صحية ملائمة.

التأجيل الإجباري للتقاعد يعني لهم إما استمرار العمل في ظروف صعبة أو الاعتماد على شبكة أمان اجتماعية ضعيفة أو غير موجودة، وهذا يهدد مبدأ العدالة بين الأجيال وبين الشرائح الاجتماعية.

ووفقًا للتقرير الأخير لمنظمة التعاون الاقتصادي لعام 2025، أكثر من 40% من العاملين في الوظائف الميدانية (الحرف اليدوية والمهن الشاقة) أبدوا خشية من القدرة على العمل حتى العمر الجديد للتقاعد بسبب الإرهاق الجسدي ومشاكل الصحة المزمنة.

من جهة أخرى، تظهر تجارب دول مثل ألمانيا والمملكة المتحدة التوتر الاجتماعي الذي يرافق مثل هذه التعديلات.

ففي ألمانيا أثار قرار الحكومة رفع سن التقاعد جدلاً حول تأثير ذلك على العمال ذوي المهن اليدوية والعاملين في قطاعات مهددة بالأتمتة، وحثت النقابات على ضمان تعويضات أو برامج تقاعد جزئي.

أما المملكة المتحدة، فتشهد جدلا مستمرا حول زيادة سن المعاش حتى 68 أو 69 عامًا، وسط احتجاج من بعض فئات العمال الذين يرون أن العمل لسنوات أطول غير ممكن جسديًا في وظائفهم.

تلك المؤشرات تعني أن الانتقال من نظام تقاعد جامد إلى نظام مرن لا يضمن فقط استدامة صناديق المعاشات، بل يعيد صياغة مفهوم العمل والحياة ما بعد الأربعين أو الخمسين.

كما تعكس أن مسألة سن التقاعد لن تختفي على الأقل في المستقبل القريب، لكنها ستفقد دورها القديم ويُعاد تشكيلها لتصبح خيارًا متعدد المسارات بدلًا من كونها محطة واحدة ثابتة.

المصادر: أرقام- يورنيوز- منظمة الصحة العالمية- منصة "أور وورلد إن داتا"- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- صندوق النقد الدولي- وكالة رويترز- إنفستوبيديا






"في أقل من 10 إلى 20 سنة، قد يصبح العمل اختياريًا"، جملة قصيرة أدلى بها "إيلون ماسك" قبل عدة أيام، لكنها في حال تحققها ستعيد رسم علاقة الإنسان بالوظيفة والوقت والدخل.

ففكرة أن يتحول العمل من ضرورة إلى اختيار ليست مجرد ترف فكري، بل إنها سيناريو محتمل قد يفرضه تسارع التكنولوجيا وتحول البنية الاقتصادية والاجتماعية في العالم.

وتؤكد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ما لا يقل عن 27% من الوظائف الحالية معرضة لمستوى عالٍ من الأتمتة خلال العقدين القادمين، وهو ما يعزز احتمالات تقلّص دور العمل البشري في الاقتصاد.

وإذا صحت رؤية "ماسك"، فإن واحدًا من أكثر المفاهيم رسوخًا وهو التقاعد سيكون أول من يتلقى الصدمة، فالنظام الحالي للتقاعد مبني على معادلة بسيطة وهي أن كل جيل يعمل، ليس فقط ليكسب دخله، بل ليمول معاشات الجيل الذي سبقه.

هذا النموذج ظهر في منتصف القرن الماضي حين كان عدد الشباب أكبر، ومتوسط الأعمار أقل، لكن اليوم يبدو أن المعادلة تفقد أساسها مع زيادة متوسط العمر، وتراجع معدلات المواليد، وبالتالي تقلصت قاعدة الممولين واتسعت قاعدة المستفيدين.

لو أضفنا إلى ذلك فكرة أن العمل ذاته قد يصبح اختياريًا مستقبلًا كما توقع ماسك فإن الخطر يصبح أكبر بكثير حيث إن أي نظام يعتمد تمويله على "العاملين الجدد" سيجد نفسه أمام شريحة متناقصة من المساهمين.

ومع زيادة الشيخوخة، وانخفاض عدد المواليد الجدد، أو حتى قرار الأجيال الجديدة بتقليل ساعات العمل أو عدم العمل على الإطلاق في حال انتشار الأتمتة والذكاء الاصطناعي، فإن قضية التقاعد قد تنهار أو تضطر إلى إعادة تعريف جذري لدورها وكيفية تمويلها.

ارتفاع سن التقاعد

في السنوات الأخيرة، واجهت أنظمة التقاعد حول العالم اختلالًا بنيويًا جعل فكرة التقاعد في عمر ثابت شبه غير مستدامة، ويعود السبب الجوهري إلى وقوع تغيرات ديموغرافية عميقة جراء ارتفاع متوسط العمر، وزيادة نسبة كبار السن، بينما تقل نسبة الشباب العاملين.

وقبل نحو مائة عام، كان عدد العاملين يكفي بوفرة لدعم أجيال المتقاعدين لكن اليوم الصورة تبدلت، وأصبح اعتماد أنظمة المعاشات على اشتراكات العاملين يؤثر فيه بشكل مباشر هذا الانحسار في القاعدة العاملة.

هذه الديناميكية دفعت العديد من الدول إلى رفع سن التقاعد القانوني أو ربطه بمتوسط العمر المتوقع، ولم يعد رفع السن خيارًا رفاهيًا في العديد من الدول، بل أصبح إجراء ضروريا للحفاظ على استقرار صناديق التقاعد وضمان قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية في المستقبل.

وتوقع تقرير حديث لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يرتفع متوسط سن التقاعد العادي للدخول إلى سوق العمل في العديد من دول المنظمة إلى نحو 66.4 عام للذكور و65.9 عام للإناث.

الدول التي لديها أفضل أنظمة تقاعد، وفقًا لمؤشر "ميرسر للمعاشات التقاعدية" لعام 2024 (مقارنة بين 48 دولة):

الترتيب

الدولة           

القيمة الإجمالية

1

هولندا           

84.8

2

آيسلندا           

83.4

3

الدنمارك             

81.6

4

سنغافورة              

78.7

5

فنلندا           

75.9

6

النرويج             

75.2

 

فعلى سبيل المثال، أقر برلمان الدنمارك رفع سن التقاعد تدريجيًا في 2025 إلى 70 عامًا للأشخاص المولودين بعد عام 1970، على أن يطبق بالكامل بحلول عام 2040، وجاء قرار الدنمارك استجابة لتزايد متوسط العمر المستمر وتراجع نسبة العاملين مقارنة بالمتقاعدين.

كذلك رفعت التشيك وسلوفينيا سن التقاعد القانوني من 65 إلى 67 عامًا ضمن سلسلة إصلاحات صناديق التقاعد في السنوات الأخيرة.

أهمية رفع سن التقاعد ومخاطره

يساعد رفع سن التقاعد الحكومات على تخفيف العبء المالي على صناديق المعاشات ويمنحها مهلة للتكيف مع التحولات الديموغرافية، كما يشجع الأفراد على البقاء في سوق العمل لفترات أطول بما يضمن استمرار المهارات ويدعم الناتج الاقتصادي.

لكن هذا التوجه ينقل في المقابل جزءًا من العبء إلى الفئات العاملة، خصوصًا أولئك في المهن الشاقة أو الوظائف غير المستقرة، وقد يثير مشكلات عدالة اجتماعية كبيرة إذا لم توفر تعويضات أو بدائل ملائمة.

وتؤكد النماذج العملية سرعة هذا التحول، ففي ألمانيا نفذت الحكومة إصلاحات تقوض مسارات انخفاض المنافع، وتضمنت حوافز ضريبية لتشجيع استمرار العمل بعد سن 67 مع إتاحة دخل معفى ضريبياً لحدود محددة للعاملين فوق هذه السن بدءًا من 2026.

الخطر الذي يغفل عنه كثيرون يكمن في بنية أسواق العمل نفسها فنحو 58% من العمال عالميًا يعملون في الاقتصاد غير الرسمي (حوالي ملياري عامل)، ونسب الإطار غير الرسمي أعلى بكثير في دول إفريقيا، وآسيا والمحيط الهادئ، والبلدان النامية عمومًا.

أي أن جزءًا كبيرًا من القوى العاملة لا يشملها تمويل معاشات من الأساس، وبالتالي تأجيل سن التقاعد عليها يعني احتمالًا متزايدًا لاستمرار العمل تحت ظروف صحية واقتصادية خطرة بدون شبكة أمان كافية.

أخيرًا، لا تعد زيادة سن التقاعد حلاً تقنيًا محايدًا؛ هي إجراء له منافع مالية على الموازنة العامة لكنه يحمّل مجتمعات بأبعاد صحية واجتماعية واضحة، لذا تظل هناك حاجة ملحة إلى حلول واقعية تعمل على تحقيق عدة فوائد.

من بينها توسيع التغطية الاجتماعية لتشمل العاملين غير الرسميين، ووضع برامج صحية ومهنية للوظائف المجهدة، ووجود آليات دفع مرنة تسمح بمعاشات جزئية للتقاعد التدريجي، وسياسات سوق عمل تشجع على التوظيف المستدام لكبار السن.

غياب هذه الحلول يعني أن رفع السن قد يحول ببساطة مشكلة مالية حكومية إلى أزمة اجتماعية وصحية واسعة النطاق.

من سيستفيد ومن سيتضرر؟

بدأت فكرة التقاعد كمرحلة ثابتة وواضحة تتراجع مع تغيّر شكل المجتمعات وارتفاع متوسط الأعمار وتباطؤ نمو القوى العاملة.

ومع إعادة الدول حساباتها لمواجهة الضغوط الديموغرافية وضمان قدرة أنظمة المعاشات على الصمود، بات الانتقال من سن تقاعد موحدة إلى مسارات أكثر مرونة خطوة يراها البعض ضرورية.

لكن هذه الخطوة تطرح في الوقت نفسه أسئلة حول العدالة، ومن الذي سيستفيد من هذا التغيير، ومن الذي قد يجد نفسه مضطرًا لتحمل تبعاته؟ فالإجراء الذي يساعد الحكومات ماليًا قد يتحول إلى عبء ثقيل على من لا يملك صحة جيدة أو عملًا مستقرًا.

أكبر صناديق التقاعد بحسب دراسة موقع ثينكينج أهيد إنستيتيوت:

الترتيب

الدولة    

حجم الصندوق

(تريليون دولار أمريكي)

1

الولايات المتحدة    

11.7

2

اليابان   

2.1

3

كندا  

1.8

4

هولندا     

1.1

5

أستراليا      

1.1

 

ومن بين المستفيدين الرئيسيين أولئك الذين يتمتعون بمهارات عالية، وصحة جيدة، وتاريخ وظيفي مستقر، فرفع سن التقاعد يمنحهم فرصة للعمل سنوات إضافية، ما يعني زيادة مدخراتهم أو معاشاتهم التراكمية.

كذلك تستفيد الشركات التي تستطيع الحفاظ على موظفين مخضرمين بدلاً من خسارة الخبرات وتدريب جديدين، ما يُقلل تكاليف الاستبدال ويحافظ على الإنتاجية.

في المقابل، ستكون الفئات الهشة هي الأكثر عرضة للخسارة مثل أصحاب الأعمال اليدوية والمهن المجهدة بدنيًا، وذوي الدخل المنخفض، والعاملين في القطاع غير الرسمي، ومن يعانون مشاكل صحية مزمنة.

هؤلاء غالبًا لا يملكون القدرة على العمل حتى أعمار متقدمة، أو لا يتمتعون بتغطيات معاشات أو رعاية صحية ملائمة.

التأجيل الإجباري للتقاعد يعني لهم إما استمرار العمل في ظروف صعبة أو الاعتماد على شبكة أمان اجتماعية ضعيفة أو غير موجودة، وهذا يهدد مبدأ العدالة بين الأجيال وبين الشرائح الاجتماعية.

ووفقًا للتقرير الأخير لمنظمة التعاون الاقتصادي لعام 2025، أكثر من 40% من العاملين في الوظائف الميدانية (الحرف اليدوية والمهن الشاقة) أبدوا خشية من القدرة على العمل حتى العمر الجديد للتقاعد بسبب الإرهاق الجسدي ومشاكل الصحة المزمنة.

من جهة أخرى، تظهر تجارب دول مثل ألمانيا والمملكة المتحدة التوتر الاجتماعي الذي يرافق مثل هذه التعديلات.

ففي ألمانيا أثار قرار الحكومة رفع سن التقاعد جدلاً حول تأثير ذلك على العمال ذوي المهن اليدوية والعاملين في قطاعات مهددة بالأتمتة، وحثت النقابات على ضمان تعويضات أو برامج تقاعد جزئي.

أما المملكة المتحدة، فتشهد جدلا مستمرا حول زيادة سن المعاش حتى 68 أو 69 عامًا، وسط احتجاج من بعض فئات العمال الذين يرون أن العمل لسنوات أطول غير ممكن جسديًا في وظائفهم.

تلك المؤشرات تعني أن الانتقال من نظام تقاعد جامد إلى نظام مرن لا يضمن فقط استدامة صناديق المعاشات، بل يعيد صياغة مفهوم العمل والحياة ما بعد الأربعين أو الخمسين.

كما تعكس أن مسألة سن التقاعد لن تختفي على الأقل في المستقبل القريب، لكنها ستفقد دورها القديم ويُعاد تشكيلها لتصبح خيارًا متعدد المسارات بدلًا من كونها محطة واحدة ثابتة.

المصادر: أرقام- يورنيوز- منظمة الصحة العالمية- منصة "أور وورلد إن داتا"- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- صندوق النقد الدولي- وكالة رويترز- إنفستوبيديا